13/9/2007

خانة الديانة: المشكلة ليست في الشريعة.. والحل ليس في الحذف

حسام بهجت
المبادرة المصرية للحقوق الشخصية

ورقة مقدمة إلى ورشة عمل
(خانة الديانة ببطاقة الرقم القومي)

المجلس القومي لحقوق الإنسان
10 سبتمبر 2007

أولاً: مقدمة
تبدأ هذه الورقة الموجزة باستعراض لتصنيف وأعداد الحالات التي قامت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بتوثيقها لمواطنين مصريين تعرضوا لانتهاكات بسبب تعسف مصلحة الأحوال المدنية بوزارة الداخلية في إثبات معتقداتهم الحقيقية في الأوراق الرسمية. ثم تستعرض الورقة بإيجاز الإطار القانوني الحاكم للمسألة، قبل أن تتوقف عند نقطتين أساسيتين: مدى صحة الاحتجاج بالشريعة الإسلامية كمبرر لهذه الانتهاكات، وإمكانية إنهاء الانتهاكات ومنع تكراراها في حال الأخذ بمقترح حذف خانة الديانة من بطاقة الرقم القومي. وتنتهي الورقة بدعم مقترح تخيير المواطنين في إثبات ديانتهم في بطاقة الرقم القومي، مع إثبات المعتقد الديني الحقيقي للمواطن في السجلات الرسمية لمصلحة الأحوال المدنية دون قيود.

ثانياً: في وصف المشكلة
منذ بدايات عام 2004 وحتى نهاية أغسطس 2007 قام برنامج الحق في الخصوصية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية بتوثيق ما يقرب من 300 حالة تتعلق بانتهاك الحق في إثبات المعتقد الديني في الأوراق الرسمية مع ما يترتب على ذلك من تمييز وانتهاكات أخرى في شتى نواحي الحياة اليومية، لاسيما في مجال الأحوال الشخصية.

وتتوزع هذه الحالات تحت التصنيفات الأربعة التالية:

1- المصريون البهائيون:
أقام المصريون البهائيون أربع دعاوى قضائية أمام القضاء الإداري منذ عام 2004 وحتى الآن، تتعلق جميعاً بالقرار المفاجئ لمصلحة الأحوال المدنية منذ ثلاثة أعوام بإجبار البهائيين على التسجيل كمسيحيين أو مسلمين في أوراقهم الرسمية حتى لو كانوا يحملون شهادات ميلاد وبطاقات تحقيق شخصية تثبت اعتناقهم للبهائية ومولدهم لوالدين بهائيين. وقد كان البهائيون حتى وقت قريب يتمتعون بالحق في إثبات اعتناقهم للبهائية، أو ترك خانة الديانة خالية أو كتابة كلمة (أخرى) أمامها. إلا أنهم بدءوا في مواجهة تعسف مصلحة الأحوال المدنية وفروعها من مكاتب السجل المدني مع إدخال نظام الرقم القومي عبر الحاسب الآلي في عام 2000 وتحول هذا التعسف إلى قرار رسمي في عام 2004.

في أبريل من عام 2006 قضت محكمة القضاء الإداري بحق البهائيين في إثبات معتقدهم في الأوراق الرسمية، غير أن الدولة سارعت بالطعن على الحكم ووقف تنفيذه ثم قضت المحكمة الإدارية العليا في ديسمبر 2006 بأن الدولة غير ملزمة بإثبات البهائية في الأوراق الرسمية. وشكل هذا الحكم تغييراً لقضاء الإدارية العليا في المسألة نفسها في عام 1983 رغم تطابق الوقائع والقوانين الحاكمة للمسألة.

وتنظر محكمة القضاء الإداري الآن دعوى قضائية أخرى تتعلق بحق البهائيين في الحصول على شهادات ميلاد لأطفالهم على أن تترك فيها خانة الديانة خالية. كما تنظر المحكمة ذاتها دعويين قضائيتين أخريين يتعلقان بفصل الطلاب الجامعيين البهائيين من الكليات والمعاهد العليا بسبب عجزهم عن استخراج بطاقات شخصية أو الحصول على شهادات تأجيل الخدمة العسكرية. وقد أصدرت محكمة القضاء الإداري في شهر مايو 2007 حكماً في الشق المستعجل من إحدى هاتين الدعويين قضت فيه بإلزام وزارة الدفاع بإصدار بطاقة الخدمة العسكرية لطالب بهائي بالسنة النهائية في إحدى الجامعات وبإلزام وزارة التعليم العالي بالسماح للطالب بأداء امتحان التخرج. ومرة أخرى سارعت الدولة بالطعن على الحكم أمام المحكمة الإدارية العليا التي لم تبدأ بعد في نظر الطعن.

وحتى الفصل في هذه الدعاوى المختلفة لا يزال المصريون البهائيون عاجزين عن تسجيل مواليدهم الجدد، أو الحصول على تطعيمهم ضد الأوبئة من وزارة الصحة، ويواجه عدد من الأطفال خطر الحرمان من التعليم أو الطرد من مدارسهم أو جامعاتهم. كما يواجه عدد منهم احتمال التوقيف والحبس بسبب عدم حملهم لبطاقات شخصية بعد بلوغهم سن السادسة عشر، أو الاتهام بالتهرب من أداء الخدمة العسكرية. ويتعرض عدد من كبار السن لمشاكل أخرى تتمثل في عدم تمكنهم من تلقى معاشات أزواجهم المتوفين أو ميراثهم بسبب عدم استطاعتهم استخراج شهادات وفاة لهم. كما بدأ عدد متزايد من المؤسسات العامة والخاصة كالبنوك وشرطة المرور وغيرها في رفض الاعتداد بالبطاقات الورقية القديمة دون سند من القانون. ولا يستطيع البهائيون الآن سوى الحصول على جوازات السفر نظراً لخلوها من خانة الديانة وتدخل المجلس القومي لحقوق الإنسان في كل حالة على حدة.

2- العائدون من الإسلام إلى المسيحية:
قامت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بتوثيق 202 دعوى تخص مسيحيين يرغبون في إثبات عودتهم إلى اسمهم وديانتهم المسيحيين بعد تحولهم لبرهة إلى الإسلام. وقد أصدرت محكمة القضاء الإداري في الفترة من إبريل 2004 وحتى سبتمبر 2006 عدداً بلغ 22 حكماً لصالح هؤلاء المدعين ألزمت مصلحة الأحوال المدنية بإثبات الديانة المسيحية لهم. وقد قامت الدولة بتنفيذ كافة هذه الأحكام دون الطعن عليها. غير أنه وبعد تقاعد رئيس المحكمة في خريف 2006 عادت محكمة القضاء الإداري وقضت بعدم جواز إثبات ديانة العائدين للمسيحية في ما لا يقل عن 70 حكماً صدروا منذ إبريل 2007. ولا تزال محكمة القضاء الإداري تنظر 110 دعوى مشابهة. وقد لجأ 12 مدعياً ممن تم رفض دعاواهم إلى المحكمة الإدارية العليا التي ينتظر أن تصدر حكمها في المسألة في 17 نوفمبر القادم.

3- أبناء المتحولين من المسيحية إلى الإسلام:
تخص هذه الحالات أفراداً مسيحيين كانوا دون السادسة عشر من عمرهم حين قام أحد والديهم بالتحول من المسيحية إلى الإسلام. وفي هذه الحالات تقوم مصلحة الأحوال المدنية بتغيير ديانة الأبناء القصر إلى الإسلام دون إرادتهم بل وأحياناً دون علمهم. ورغم أن معظم هؤلاء الأفراد ينشئون على المسيحية ويعيشون في كنف الأم المسيحية إلى أنهم يعتبرون مسلمين في نظر الدولة وفي أوراقهم الرسمية، مما يؤدي إلى مشاكل عدة في مجالات الزواج وتسجيل الأبناء وغيرها.

وقد بلغ عدد الدعاوى القضائية المماثلة التي وثقتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في الأعوام الثلاثة الماضية 89 قضية، أصدرت محكمة القضاء الإداري بتشكيلها السابق أحكاماً في 7 منها لصالح حق المدعين في إثبات بقائهم على المسيحية رغم تغيير والدهم لديانته. وقد قامت مصلحة الأحوال المدنية بتنفيذ الأحكام السبعة دون طعن. ولم تصدر المحكمة بعد تغيير تشكيلها في سبتمبر 2006 أحكاماً في هذا الشأن حتى الآن. [1]

4- المتحولون من الإسلام إلى المسيحية:
رغم أن القانون المصري لا يجرم التحول من الإسلام إلى أي ديانة أخرى، ورغم أن قانون الأحوال المدنية ينظم إجراءات تغيير خانة الديانة دون تحديد، إلا أن كلاً من مصلحة الأحوال المدنية بوزارة الداخلية ومصلحة الشهر العقاري والتوثيق بوزارة العدل ترفضان تغيير خانة الديانة لأي فرد ولد مسلماً احتجاجاً بحجة عدم إباحة الشريعة الإسلامية للارتداد عن الإسلام. [2]

وليس هناك أي إحصائيات رسمية حول عدد المتحولين من الإسلام إلى المسيحية، غير أن التقديرات تشير إلى أن عددهم يقدر ببضعة آلاف. ولا يتقدم معظم هؤلاء الأفراد بطلب إثبات اعتناقهم للمسيحية في الأوراق الرسمية خوفاً من رد الفعل المجتمعي أو من التعرض للاعتقال أو القبض بتهمة “ازدراء الأديان” وهو ما حدث بالفعل في حالات عدة. كما يقدم بعض هؤلاء الأفراد على تزوير بطاقات شخصية أو شهادات ميلاد لتيسير أمور الزواج أو التمكن من تسجيل مواليدهم كمسيحيين، مما عرضهم في السابق ويعرضهم حالياً لخطر السجن بتهمة التزوير في أوراق رسمية. بينما فضل البعض الآخر السفر إلى خارج البلاد هرباً من التمييز أو السجن.

ثالثاً: الإطار القانوني الحاكم للمشكلة
يكفل الدستور المصري كلاً من الحق في حرية العقيدة (المادة 46)، والحق في المساواة وعدم التعرض للتمييز على أساس الدين أو المعتقد (المادة 40)، والحق في الحرية الشخصية والخصوصية (المادتان 44 و 45). ولا يوجد في القانون المصري أي نصوص تميز بين المواطنين في الحقوق على أساس اتباعهم لما يسمى بالديانات السماوية أو غير السماوية. كما لا يوجد في القانون المصري أي نص يمنع تغيير الديانة سواء من الإسلام أو إليه.

وينظم قانون الأحوال المدنية (رقم 143 لسنة 1994) في المادة 47 الإجراءات القانونية الواجب اتباعها في حالة رغبة المواطن في إجراء أي تعديل أو تصحيح في خانة الديانة في الأوراق الرسمية دون تحديد ديانة بعينها.

كما أن الحكومة المصرية ملتزمة بحماية حق المواطنين في حرية الدين والمعتقد، بما في ذلك الحق في عدم التعرض ل لإكراه على اعتناق ديانة بعينها ، وحق المواطنين في الحماية من التمييز الديني بموجب كل من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب. كما تخضع الحكومة لالتزام قانوني بحماية الحق في التعليم دون تمييز على أي أساس، بما في ذلك المعتقد الديني، بموجب كل من الميثاق الأفريقي والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والاتفاقية الدولية لحقوق الطفل. وقد صادقت مصر على كافة هذه الاتفاقيات وأصبحت جزءاً من التشريع المصري بموجب الدستور.

رابعاً: هل المشكلة في الشريعة الإسلامية؟
استندت الأحكام القضائية التي صدرت فيما يتعلق بخانة الديانة في شهادات الميلاد والبطاقات الشخصية في 2006 و2007 إلى الشريعة الإسلامية في رفض المطالب المشروعة للبهائيين والعائدين إلى المسيحية. ورغم أن هذه المطالب تتسق تماماً مع قوانين البلاد المعمول بها والمذكورة أعلاه، إلا أن هذه الأحكام القضائية قامت بتنحية القوانين واجبة الإنفاذ والاستناد إلى تفسير القضاء للشريعة الإسلامية بدعوى اعتبار الشريعة جزءاً من أحكام النظام العام المقيدة للقوانين المصرية والدولية. ولكن السؤال الأساسي هنا هو: هل يتعارض مطلب إثبات المعتقد الديني الحقيقي للمواطن مع أحكام الشريعة الإسلامية؟

1- الشريعة والديانات “غير السماوية”:
دائماً ما يحتج المعترضون على حق البهائيين في إثبات معتقدهم في الأوراق الرسمية، بمن فيهم الحكومة والقضاء، إلى أن الشريعة الإسلامية لا تقر التعايش سوى بين أتباع الديانات الثلاث (الإسلام والمسيحية واليهودية)، وهو زعم لا يأتي أصحابه أبداً بما يؤيده من قرآن أو حديث أو من فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) أو من تبعه من الخلفاء والصحابة والتابعين أو المذاهب الرئيسية في الفقه الإسلامي. والحق أن النظر في كتب السيرة النبوية والفقه والحديث والتفاسير يظهر بجلاء أن النبي لم يفرق في دولة المدينة بين أتباع “الديانات السماوية” وبين غيرهم من أتباع المعتقدات الأخرى كالمجوس والصابئة وغيرهم. فقد سمح لهم النبي بالإقامة في دولة الإسلام بالمدينة مثلهم مثل غيرهم من غير المسلمين، بل وأخذ منهم النبي الجزية، بما يشير إلى معاملتهم نفس معاملة أهل الكتاب. والجزية هي المعادل التاريخي لمفهوم (المواطنة) الحديث المستعمل في يومنا هذا.

فقد جاء في موطأ الإمام مالك ” عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر أمر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم. فقال عبد الرّحمن بن عَوف: أشهدُ لسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سُنّوا بهم سُنّة أهل الكتاب». ” وهي سنة تقريرية تحمل إشارة صريحة وأمراً دينياً بمعاملة المجوس – وهم ليسوا من أهل الكتاب- نفس معاملة المسيحيين واليهود في دولة الإسلام.

كما جاء في كتاب (أحكام أهل الذمة) لابن القيم الجوزية أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب، وكذلك من المجوس حسب سنة النبي. وجاء كذلك في كتاب الأم للشافعي، (كتاب الخراج، من يلحق بأهل الكتاب)، أن عثمان بن عفان قد أخذ الجزية من البربر وهم أيضاً ليسوا من أهل الكتاب. وأضاف إليهم أبو يوسف يعقوب ابن إ براهيم في ( كتاب الخراج ) كلاً من الصابئة والسامرة، وهم أيضاً ليسوا من أهل الكتاب.

وقد جاء في تفسير القرطبي لآية “لكم دينكم ولي دين” من سورة الكافرون: “وسمّى [القرآن] دينهم ديناً لأنهم اعتقدوه وتولوه”. فالقرآن الكريم ذاته على لسان النبي صلي الله عليه وسلم لم يقصر وصف الدين على أهل الكتاب وإنما استعمله حتى مع المشركين عبدة الأوثان الذين كانوا وقتها في حرب مع الإسلام.

إن جميع هذه الدلائل تثبت بما لا يدع مجالاً للشك ألا صحة للزعم بأن دار الإسلام لا تسع سوى أتباع الديانات الثلاث. بل إن فعل نبي الإسلام ذاته يكذب هذا الزعم. فإن كان النبي لم يخش من غير أهل الكتاب على الدين الوليد ودولة الإسلام التي كانت وقتها ما زالت في المهد وتحيطها الحروب والمؤامرات والدسائس، فكيف نأتي بعد أربعة عشر قرناً وتعداد المسلمين يزيد عن المليار في مشارق الأرض ومغاربها ونأمر المصريين من غير أهل الكتاب بالدخول قسراً في الإسلام أو المسيحية؟ وماذا يفعل ملايين المسلمين الذين يعيشون في بلاد يدين أغلب سكانها بمعتقدات “غير سماوية” كالبوذية والهندوسية في الهند أو الصين أو تايلاند؟

2- الشريعة والحق في تغيير الديانة:
من غير المختلف عليه أبداً أن الشريعة الإسلامية لا تجيز للمسلم التحول من الإسلام إلى أي ديانة أخرى، وتعتبر ذلك معصية كبرى في منزلة الكفر. غير أنه من المعلوم كذلك أن الشريعة الإسلامية لم تأت بأي حكم قاطع فيما يتعلق بالعقوبة الدنيوية لمن يرتد عن الإسلام بعد أن ولد عليه أو دخل فيه، سواء تمثلت تلك العقوبة في الحد أو التعزير أو الحرمان من الحقوق المدنية.

فحرية العقيدة هي الأصل الوارد في ما لا يقل عن عشرين موضعاً في القرآن، من بينها:
” ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة” ، “ولو شاء الله ما أشركوا” ، “قل فللّه الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين “، “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة” ، ” ولو شاء لهداكم أجمعين” ، “ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها” ، “ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة “، “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” ، “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” ، “إ ن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا” ، “قل الله اعبد مخلصاً له ديني. فاعبدوا ما شئتم من دونه” ، “قل يا أيها الكافرون. لا اعبد ما تعبدون. ولا انتم عابدون ما اعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا انتم عابدون ما اعبد. لكم دينكم ولي دين” ، “ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” ، ” فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل” ، “وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل” ، “فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر” ، “ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل” ، “قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أ نا عليكم بحفيظ” ، “ربكم أ علم بكم إ ن يشأ يرحمكم و إ ن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا” ، “أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا” .

ولا صحة للزعم بأن نطاق حرية الاعتقاد بموجب الشريعة يقتصر على حرية الدخول في الإسلام دون إمكان الخروج منه. فهذا الزعم يخالف النص القرآني الصريح في الآية 137 من سورة النساء:
((إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا))
فالنص القرآني هنا لا يعاقب من كفر بعد إسلامه إلا بالحرمان من المغفرة في الآخرة دون أي عقاب في الدنيا. والآية واضحة في تناولها لطائفة (الذين آمنوا ثم كفروا) وعاملهم القرآن بنفس الحكم الذي عامل به من اختار عدم الدخول في الإسلام من الأصل.

كما أن معارضة البعض لحق الفرد في العودة إلى المسيحية بعد الدخول في الإسلام بدعوى اعتبار ذلك نوعاً من (التلاعب بالأديان) لا تستند إلى أحكام الشريعة الإسلامية. فمدونات السيرة النبوية تظهر عدم جواز التفتيش في باطن معتقدات الفرد حتى في حالة الشك في صدق ما يظهره من معتقدات. والدليل الشرعي الأشهر هنا هو واقعة ا لصحابي أسامة بن زيد، الذي لحق في إحدى المعارك بأحد (الكفار ) ليقتله، فلما بلغه وكاد يقتله أعلن الرجل إسلامه لينجو من القتل، فلم يصدقه أسامة وقتله، وهو ما أغضب الرسول (ص) الذي قال لأسامة حديثه الشهير: (هلا شققت عن صدره؟ ) وتندرج هذه الواقعة تحت تصنيف السنة الفعلية والقولية التي تعد المصدر الثاني للشريعة الإسلامية بعد القرآن . ويتضح هنا أن الرسول قد نهى – في قاعدة شرعية – عن الحكم على صدق أو كذب اعتناق شخص ما لديانة ما ، حتى لو توافرت شكوك قوية في أن هذا الشخص يدعي غير ما يبطن من أجل تحقيق مصلحة دنيوية. بل إن الرسول طبق هذه القاعدة الشرعية على مقاتل في جيش العدو داخل ميدان المعركة وأثناء حمله السيف في مواجهة دولة الإسلام الوليدة وقتها. فما بالنا بمواطنين مصريين كاملي المواطنة لم يرتكبوا أي جرم في حق الدولة أو الغالبية المسلمة من أبناء نفس الوطن؟

3- الشريعة ومصالح العباد:
في ضوء الاجتهادات المختلفة في تفسير حكم الشريعة في جواز تجميد الحقوق المدنية لمن يترك الإسلام بعد دخوله، فإن من المستقر عليه قضاء أن الدولة ملزمة بالأخذ بأكثر الاجتهادات توافقاً مع مصالح العباد ولو خالفت الرأي المستقر عليه بين قدامى الفقهاء.

فقد استقرت المحكمة الدستورية العليا في العديد من أحكامها حول الآراء الاجتهادية على التالي:
” الآراء الاجتهادية ليس لها ـ في ذاتها قوة ملزمة متعدية لغير القائلين بها, ولا يجوز بالتالي اعتبارها شرعاً ثابتاً منفرداً لا يجوز أن ينقض ، وإلا كان ذلك نهياً عن التأمل والتبصر ف ي دين الله تعالى وإنكاراً لحقيقة أن الخطأ محتمل في كل اجتهاد . بل إن من الصحابة من تردد في الفتي تهيبا ً . ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء ليس أحق بال ا تباع من اجتهاد غيره. وربما كان أضعف الآراء سنداً أكثرها ملائمة للأوضاع المتغيرة ولو كان مخالفاً لأقوال استقر عليها العمل زمناً . ولئن جاز القول بأن الاجتهاد ف ي الأحكام الظنية وربطها بمصالح الناس عن طريق الأدلة الشرعية ـ النقلية منها والعقلية ـ حق لأهل الاجتهاد فأولى أن يكون هذا الحق ثابتاً لولى الأمر يستعين عليه في كل مسألة بخصوصها ـ بما يناسبها ـ بأهل النظر ف ي الشئون العامة، إخماداً للثائرة وبما يرفع التنازع والتناحر ويبطل الخصومة ، على أن يكون مفهوماً أن اجتهادات السابقين لا يجوز أن تكون مصدرا نهائياً أو مرجعاً وحيداً لاستمداد الأحكام العملية منها .” [3]

كما أن الاحتجاج بالمادة الثانية من الدستور، والتي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، بما يقيد نطاق حرية الاعتقاد المكفولة بموجب المادة 46 من الدستور ذاته يخالف تفسير المحكمة الدستورية العليا لحرية العقيدة. فقد سنحت الفرصة للمحكمة الدستورية العليا لتفسير نطاق المادة 46 في عام 1996 – أي بعد 16 عاماً من تعديل المادة الثانية من الدستور- وقامت المحكمة بتعريف حرية العقيدة بأنها ” تعنى ألا يحمل الشخص على القبول بعقيدة لا يؤمن بها أو التنصل من عقيدة دخل فيها أو الإعلان عنها أو ممال أ ة إحداها تحاملاً على غيرها سواء بإنكارها أو التهوين منها أو ازدرائها ، بل تتسامح الأديان فيما بينها ويكون احترامها متبادلاً. ولا يجوز كذلك في المفهوم الحق لحرية العقيدة [للدولة] … أن يكون تدخلها بالجزاء عقاباً لمن يلوذون بعقيدة لا تصطفيها . ” [4]

وحتى إن سلمنا بأن الشريعة ترفض الاعتراف بالردة عن الإسلام أو بالديانات غير السماوية، فمن قال إن إثبات معتقد ديني ما في السجلات الرسمية للدولة يعد اعترافاً بصحة هذا المعتقد؟ إن سجلات الأحوال المدنية لا تعدو كونها ملفات تحوي البيانات الأساسية للمواطنين بما يسهل تيسير العمال الإدارية للدولة وحفظ حقوق الأفراد، دون أن يحمل هذا أي أحكام قيمية على مضمون هذه البيانات.

خامساً: هل في حذف خانة الديانة من بطاقة الرقم القومي حل لكافة المشكلات؟
لا شك أن حذف خانة الديانة من بطاقة الرقم القومي مقترح إيجابي جدير بالتأييد. وكما جاء في مداخلة المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في ورشة العمل التي عقدها المجلس القومي لحقوق الإنسان العام الماضي لمناقشة المقترح، فإن حذف خانة الديانة يعد خطوة رمزية تبعث برسالة هامة للمواطن مفادها حياد الدولة تجاه معتقده الديني في تعاملاته اليومية معها والتي لا تتطلب الكشف عن معتقده الديني.

غير أن مقترح الحذف لا يجب أن يناقش بمعزل عن التوتر الطائفي المتصاعد في المجتمع والذي لا تخطئه عين. فأحد التجليات الظاهرة لهذا التوتر يتمثل في الشعور المتنامي لدى الغالبية المسلمة – بصرف النظر عن صحة هذا الشعور – بأن كل خطوة تتخذ لتقليل التمييز ضد المصريين من غير المسلمين تعد خصماً من حقوق المسلمين، وتدليلاً لغيرهم تحت ضغوط خارجية. وفي ظل هذا الشعور فإن التوجه نحو حذف خانة الديانة من بطاقة الرقم القومي قد يتعرض لإساءة تفسيره من جانب قليل أو كثير من أبناء الغالبية المسلمة بما يؤدي بالمقترح إلى تعميق المشكلة الطائفية من حيث أراد معالجتها. ولا يعني هذا الدعوة إلى صرف النظر عن المقترح، بقدر ما ندعو إلى دراسة المقترح في سياقه الاجتماعي والسياسي والاعتناء بطريقة تقديمه – في حال الأخذ به – إلى المجتمع مع النظر إلى الآثار المحتملة بعيدة المدى.

كما أن أي دراسة لمقترح حذف خانة الديانة من بطاقة الرقم القومي لا يجب أن تبالغ في تقدير أثر هذه الخطوة – التي تبقى رمزية إلى حد بعيد – في إنهاء الانتهاكات المرتبطة بإثبات الديانة في الأوراق الرسمية. فالمصريون البهائيون حالياً لا يتمكنون من الحصول على جوازات سفر – رغم أنها لا تحتوي على خانة الديانة – إلا بتدخل مباشر من المجلس القومي لحقوق الإنسان في كل حالة على حدة وبالاتفاق مع وزارة الداخلية لتيسير حصولهم على الجوازات. كما يخضع البهائيون حالياً لنظام شاذ يؤدي بهم إلى الاضطرار لاستخراج جوازات سفر للرضع والأطفال من أجل تطعيمهم أو إدخالهم للمدارس بسبب عدم تمكنهم من استخراج شهادات ميلاد. كما أن بطاقات الرقم القومي لن تحل للبهائيين مشكلات استخراج شهادات وفاة لموتاهم في ظل إصرار الدولة على تغيير ديانة المواطنين حتى بعد وفاتهم. فهل نضمن تمكين البهائيين من استخراج باقي الوثائق الرسمية الإلزامية في حال حصولهم على بطاقات رقم قومي؟

وتزداد محدودية المقترح ورمزيته وضوحاً في حالة الانتهاكات المرتبطة بتغيير الديانة وإثبات هذا التغيير في السجلات الرسمية. فالمشكلات التي يواجهها كل من المتحولين من الإسلام للمسيحية، والعائدين للمسيحية بعد الإسلام، وأبناء المتحولين إلى الإسلام لا ترتبط بعدم تمكنهم من الحصول على بطاقة الرقم القومي أو إثبات معتقدهم فيها، وإنما تكمن المشكلة في كونهم مسيحيين في الحقيقة ومسلمين في نظر الدولة. والمشكلة هنا لا تقتصر على الإكراه على الدخول في الإسلام أو البقاء فيه، وإنما تتجاوز ذلك إلى تقييد حريتهم في الزواج من مسيحيين (خاصة في حالة النساء)، وعدم تمكنهم من تسجيل أطفالهم كمسيحيين، وإجبار أطفالهم على دراسة الدين الإسلامي في المدارس، وخضوعهم لقوانين الأحوال الشخصية للمسلمين، إلى غير ذلك من ازدواجية تمنع هؤلاء المواطنين من إقامة حياة طبيعية دون أي مبرر أو فائدة لأحد. المشكلة هنا هي الديانة المثبتة في السجلات الرسمية وليس في الديانة الظاهرة في البطاقة. فكيف سيحل حذف خانة الديانة من بطاقة الرقم القومي هذه المشاكل؟ وما هو تصور المجلس القومي لحقوق الإنسان بشأنها؟

في ظل كافة هذه المحاذير والمحددات، قد يكون الحل المثالي هو تخيير المواطنين في إدراج ديانتهم في بطاقة الرقم القومي من عدمه، وبذلك نضمن حق المواطنين في الخصوصية والحرية الشخصية. إلا أن هذا الحل لا يكتمل دون إلزام مصلحة الأحوال المدنية بوزارة الداخلية بتنفيذ القانون دون اجتهاد، وذلك عبر إدراج المعتقد الحقيقي للمواطن في السجلات الرسمية للمصلحة والتي يترتب عليها تحديد قواعد الأحوال الشخصية واجبة التطبيق، دون أدنى تدخل أو إكراه.

________________________________________
[1] أصدرت محكمة القضاء الإداري بتشكيلها الحالي حكما لصالح مدعية واحدة بحقها في إثبات اعتناقها للمسيحية رغم تحول والدها للإسلام لأن المحكمة اكتشفت أن اعتناق الوالد للإسلام جاء بعد بلوغ ابنته للسادسة عشر واستخراجها لبطاقة شخصية ورقية تثبت ديانتها المسيحية، وهو ما لا ينطبق على باقي الحالات المماثلة.
[2] قامت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في الأعوام الثلاثة الماضية بتوثيق أربع حالات قام أصحابها بإقامة دعاوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري في القاهرة بعد أن رفضت مصلحة الأحوال المدنية إثبات تحولهم من المسيحية إلى الإسلام. وقد أصدرت المحكمة أحكاماً لصالح المدعين في كافة هذه القضايا وقامت الدولة بتنفيذها جميعاً.
[3] حكم المحكمة الدستورية العليا في الطعن رقم 5 سنة قضائية 8 – تاريخ الجلسة 06 / 01 / 1996 .
[4] المرجع السابق.