16/2/2009

تحت عنوان ” مساحات الأتفاق وحدود الأختلاف بين الأسلاميين والعلمانيين فى الشرق الأوسط ” نظمت مؤسسة عالم واحد للتنمية ورعاية المجتمع المدنى بالتعاون مع مؤسسة كونراد اديناور ورشة عمل موسعة ناقشت فيها مجموعة من المحاور أهمها العلمانية التى لا نعرفها – وعلمانية الوطن العربى وعلمانية الغرب – ومفهوم الدولة عند العلمانيين وعند الأسلاميين – وموقفهم من الفئات المهمشة .

فى البداية أشار د. أحمد كمال ابو المجد المفكر الاسلامى – نائب رئيس المجلس القومى لحقوق الانسان أن الإسلام نادى بالتعددية ؛ وإنها نعمة من الله ؛ لذا فإما أن نؤمن بالتعددية أو نكفر بها ؛ لأنها لا تقبل حلاً وسطاً . مؤكداً ًأنه لا يوجد حد ” للردة ” ولكن هناك تغرير – لافتاً النظر الى أن الفتاوى تختلف بإختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال ؛ ولا يمكن أن ننقل ما تم فى عهد الخلافة لتطبيقه فى عهدنا .

وأكد أبو المجد بالقول : لقد التقيت مجموعة من يطلقون على انفسهم “سلفيين” وتناقشنا فى بعض الأمور وقلت لهم أن قصر الجلباب ليس من الدين فى شئ ؛ وليس ثابت فى الدين على الاطلاق ؛ إنما هو أمر فى خيالكم انتم فقط ؛ وهذا يسئ للاسلام ؛ لان الإسلام السنى لا يعرف الخلافة الدينية وأن الخليفة ابو بكر وعمر لم يأتيا خلفاء لكونهم اكثر إيمانا من غيرهم بل أن أبو هريرة كان يتعبد اكثر منهم وكان قريب جدا من الرسول؛ وهذا يؤكد لنا أن السلطة السياسية فى الاسلام كانت شورى .

وقال الفيلسوف مراد وهبة أن اصل العلمانية فى اللغة العربية واحد كما فى اللغة الاجنبية اى ” العالم ” والفكر العلمانى لم يقف عند حد الثورة العليمة بل تجاوزه الى الثورة الدينية التى سميت بالاصلاح الدينى الذى يعنى الفحص الحر للانجيل اى تاويل النص الدينى من غير معونة من سلطة دينية ولوثر هو رائد هذا الاصلاح .

وفى إطار حديثها عن العلمانية التى لا نعرفها قالت د. منى أبو سنة أمين عام منتدى ابن رشد انه ينبغى على اى جماعة فلسفية فى نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة ان تعيد النظر فى مفهومين اساسيين وهما ” التنوير وحقوق الأنسان ” والغاية من إعادة النظر هو تأويل هذين المفهومين فى ضوء رؤية مستقبلية محكومة بمنجزات الثورة العلمية والتكنولوجية ومتجاوزة اياها فى الوقت نفسه .

والغاية من حركة التنوير هذه هى علمنة التراث الثقافى وذلك بإخضاعه الى التأويل من أجل اجتثاث الأساطير الكامنة فى تلك الثقافات وعقلنتها او بالأدق تحويل المعتقدات المطلقة المختبئة وراء التراث الثقافى او ما يسمى بالتراث القومى الى معتقدات نسبية .

وقالت د. منى أن انسان الجماهير فى مصر يتسم بأنه نقيض العلمانية أى جنوحه للتفكير فى النسبى بما هو مطلق ؛ وليس بما هو نسبى ؛ بحكم نزوعه نحو توحيد معارفه فى كل مطلق ؛ مما يعفيه من مشقة تغيير الواقع ويجعله مكتفيا بوهم التغيير الذى هو فى حقيقة الأمر الثبات والجمود ؛ واذا كانت الديمقراطية هى حكم الشعب نفسه لنفسه فأن مهمة التيار الفكرى العلمانى فى مرحلة التحول الديمقراطي فى مصر هى تدريب الجماهير على ممارسة الديمقراطية ليس بتوجيه الجماهير الى صناديق الإنتخاب فقط كما هو حادث الأن ولكن بتدريبهم على التفلسف فى امور الحيا؛ فقد كان سقراط يرى أن الديمقراطية لن تتحقق الا اذا تفلسفت الجماهير اى الا اذا اعملت عقلها النقد .

وفى ذات السياق يقول محمد فرج نائب رئيس حزب التجمع أن العلمانية لا تذكر فى الخطاب الساسي والثقافى والدينى فى مصر او البلاد العربية او الاسلامية ؛ إلا بإعتبارها نقيضاً للدين ؛ ولا يذكر العلمانيون فى هذا الخطاب إلا بإعتبارهم أعداء للدين وانت فى الخطاب السياسي الاسلامى السائد إما ان تكون علمانياً او إسلامياً بل مسلماً ولا يجوز أن تكون علمانياً مسلماً ؛ أو مسلماً علمانياً ؛ لأنك بذلك تكون قد جمعت بين نقيضين هما العلمانية والاسلام ؛ أو العلمانية والدين ؛ والنقيضان فى الخطاب السياسي / الدينى لا يجتمعان .

وقال فرج أن العلمانية تعنى ” التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق ” والعلمانية ليست ايديوجية منغلقة بل منهج حياة ؛ مشيراًُ أن الكثيرون من منتقدى العلمانية يختصرون مفهوم المطلق فى الله أو فى الدين فقط ؛ ولكن المطلق لا يمكن إختصاره فى الله ؛ أو فى الدين مع الاعتراف أن الخالق فى ذاته مطلق بمعنى أنه غير نسبى ؛ وغير متغير ؛ وأن الدين فى جوهره مطلق لأنه تسليم بالإيمان .

وفيما يخص تشويه العلمانية قال أن التشويه لا يأتى من المعاديين لها بالضرورة فمن الممكن أن يأتى لها من أصحابها ؛ ومن معتنقيها أو حلفائها ؛ وفى إعتقادنا أن أهم مصدر للتشويه هو الخلط بين المجالات المختلفة ؛ وبصفة خاصة الخلط بين المطلق والنسبى سواء أكان هذا المطلق دينى أو ايديوجى أو سياسي .

وفى معرض الحديث عن الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين يقول منتصر الزيات أمين لجنة الحريات بنقابة المحامين أن مساحات الإتفاق والإختلاف التى نتحدث عنها عالجتها التجربة التركية وحددت هذه المساحات التى تمثلها الدولة التركية وبين مؤسسة مهمة من مؤسسات الدولة وهى مؤسسة رئاسة الوزراء .

وقال الزيات أن العلمانية لا تعنى أبدا فصل الدين أو التدين لانها لو كانت كذلك لتحولت الى نظرية اخرى ليست هى العلمانية فهناك النظرية الشيوعية التى تتعامل مع نص الدين ؛ وهناك اللادينين أيضا الذين يمثلون نظرية اخرى مختلفة ؛ إذن العلمنة لا تعنى ابداً فصل الدين أو إقصائه . ولا تعنى فصل الدين عن المجتمع بل هى تريد حصاره فى مكان ضيق من الحياة ؛ تريد أن تدفع به الى المساجد والزوايا ولا تريده أن يهيمن على مجريات الأمور ؛ أو مناطق إتخاذ القرار فى المجتمعات . وهذه هى العلمنة وإحدى إشكالياتها فى بلادنا العربية التى يشكل المكون الثقافى الأبرز فيه الإنتماء الى الدين – الى الاسلام .

وفى ذات الإطار يقول السيد يس مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية فى حديثه عن علمانية الوطن العربى وعلمانية الغرب أن الحديث عن الديمقراطية لا يصلح بدون عدالة إجتماعية ؛ وعلى الباحث العلمى ان يسأل نفسه فى بداية بحثه هل المشكلة التى نتصدى لها مشكلة حقيقية أم مزيفة ؟ والإجابة ببساطة انها مشكلة مزيفة لأن المسألة ليست تقييم العلمانية أو تحويل المبدء السياسي أو الفصل بين الدين او الدولة .

وطالب يس بضرورة إختيار المشكلات المطروحة على الساحة ؛وهو ما يقودنا الى تعريف مجتمع المعلومات العالمى الذى يقوم على الفضاء المعلوماتى ؛ وهو ما أعطى مساحة من الحرية والديمقراطية لكثير من المواطنين فى مختلف انحاء العالم بل وسمح بما يسمى بحوار الثقافات .

وقال يس أن هناك ثمة تغيرات تحكم المسألة اهمها الإنتقال من الحداثة الى العولمة فالأولى لها أسس وكل الثنائيات التى كانت موجودة فى القرن العشرين إنتهت تفاعلاتها .

وقال يس إننا ضد الدولة الإسلامية لكننا مع الدولة الديمقراطية التى يحكمها الدستور ؛ ولا تحكمها المرجعيات الدينية الخارجة عن الدستور بل أننا نرفض ما جاء ببرنامج الإخوان لأنه لا يمكن الفصل بين الدين والمجتمع ؛ والعلمانية ببساطة هى فصل الدين عن الدولة وعدم تدخل المراجع الدينية فى اتخاذ القرار .

وهو ما كشفه مؤخراً مجموعة الفتاوى الدينية على الفضائيات ومن هنا فلا يمكن ان نعطى تقاليد المجتمع لمجموعة من المشايخ لا يدركون واقعهم وعلينا ان نعيش فى فترة الاتساق .

وعلق يس بالقول انه ضد النموذج التركى وتدخل الجيش فى شئون الدولة فى أى وقت بحكم العلمانية لأننا ببساطة نتحدث عن دولة يحكمها الدستور .

وتسأءل يس ما هى المشكلات المطروحة على الساحة العربية ؟ مجيباً انها ببساطة تتمثل فى التحول من الديمقراطية والإنتقال من الشمولية والسلطوية الى الليبرالية ؛ وهى تداول السلطة ؛ وحرية التعبير ؛ وحرية التفكير ؛ فنحن فى مرحلة تحول ديمقراطى اعترضنا على بعض مراحله ولكن هذا دليل على الدخول فى ساحة هذا التحول ؛ ولكن ما نشهده الأن جمود ديمقراطي ؛ وهذا ليس مسئولية النظام ؛ انما مسئولية الأحزاب السياسية الضعيفة التى لا تعطى متغيرات للعصر ؛ ولا تستطيع تجديد نفسها ؛ حتى المثقفين المصريين عجزوا عن التجديد الفكرى ؛ وأصبح المطروح على الساحة هو الجمود الديمقراطيى .

وهو ما كشفته الجماعة الإسلامية والجهاد والمراجعات الخاصة بهم ؛ حيث اصبحنا امام مشكلة التباس خاطئ والتاويل المنحرف ؛ بمعنى أن هذه الجماعات أعطت لنفسها فى فترة من الفترات حق القيام بأعمال الإرهاب ؛ وكل من لم يصبح مسلماً بعد الرسالة المحمدية فهو كافر وينبغى قتاله ؛ وهذه كارثة لأن ذلك يتعارض مع ما ينادى به الإسلام ” لا اكراه فى الدين ” .

وقال يس حتى الأن لم نجد نظام المعادلة الصحيحة بين الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية فى الإشتغال بالسياسة ؛ وأصبحنا أمام حالة من الإشتياك بين الدين والسياسة ؛وحالة الجمود السياسى هى المشكلة ؛ ولكن مع رفض قيام دولة دينية تقوم على مرجعية دينية لأن الديمقراطية هى الأساس والدستور هو الاصل.

وأضاف د. عمرو الشوبكى الخبير بمركز الأهرام للدراسات فى حديثه عن العلمانيين والأسلاميين .. صراع ايدلوجى أم صراع سياسي ان الظاهرة الإسلامية المعاصرة مثلت مدخلا خصبا لإستخدام العديد من المقتربات المنهجية والمعرفية في محاولة ” لفك طلاسمها ” باعتبارها عالم ثقافي خاص ومغلق ، أو من أجل مواجهتها واستبعادها من الساحة الفكرية والسياسية باعتبارها خطر ظلامي هائل ، وأخيرا أو نادرا من أجل فهمهما كظاهرة سياسية ـ اجتماعية يمكن استيعابها ودمجها في قلب الحياة السياسية وفي داخل عملية التطور الديمقراطي التي تشهدها كثير من المجتمعات العربية والإسلامية .

مضيفاً أن الاقتراب من الظاهرة الإسلامية في الحقيقة يثير تداخلات مع أكثر من حيز معرفي آخر ، بعضها يتعلق بالحيز الديني والمقدس وبعضها يتعلق بالإطار الثقافي والحضاري ، والبعض الثالث يتعلق بتفسيرات اقتصادية وطبقية راجت طوال الستينيات والسبعينيات في محاولة لفرض مبرر طبقي شبة وحيد لتفسير أسباب وجود الظاهرة الإسلامية وانتشارها.

مشيراً أن السؤال الذي يمكن طرحه في هذا السياق يتعلق بعلاقة التيار الإسلامي بالتيار العلماني، وهل الخلاف الذي جري بين هذه التيارات هو خلاف أيديولوجي أم سياسي، أم الاثنين معا؟ مركداً أن كثير من الإجابات علي هذا السؤال تميزت بالانحياز الكامل لجانب علي حساب آخر ، حيث اعتبر البعض أن ظاهرة الإسلام السياسي هي ظاهرة محض ثقافية ترجع إلي خصوصية الثقافة العربية الإسلامية وإلي طبيعة النص الديني الإسلامي ، واعتبر البعض الآخر أنها محض ظاهرة اجتماعية ترجع إلي الأزمة الاقتصادية والتعثر الديمقراطي والسياسي، وبناء على ذلك اعتبر في الحالة الاولي أن الصراع هو صراع أيديولوجي، وفي الثانية صراع سياسي.

وفي الحقيقة فأن للظاهرة الإسلامية بعد ثقافي يفسر وجودها بشكل “أولي” على الساحة الفكرية والسياسية، وآخر اجتماعي ـ سياسي يفسر انتشارها وانحسارها، أو تبينيها للأساليب الديمقراطية أو العنيفة، وهنا تصبح طبيعة السياق السياسي والاجتماعي المحيط بالحركات الإسلامية هو المحدد لمضمون الخطاب الإسلامي . ولعل من هنا ترجع أهمية قراءة أدبيات التحليل الثقافي ـ الاجتماعي في مجال علم الاجتماع السياسي والأنثربولوجيا والتاريخ ، وذلك في محاولة لفهم ظاهرة اجتماعية ذات بعدين أحدهما ثقافي والآخر اجتماعي ، ومجتمعات إسلامية أنتجتها لها خصوصيتها ولكنها لا تمثل استثناء وتفردا عن التاريخ الإنساني ولا نسقا خالدا لا يتغير بتغير الزمن والبيئة الاجتماعية والسياسية.

ويمكن القول إجمالا إنه من الصعب أن نجد ظاهرة اجتماعية أخري غير الظاهرة الإسلامية عبرت عن هذا التداخل بين الحقل الثقافي والاجتماعي ، وربما أيضا من الصعب أن نجد حقلا آخر غير الحقل الديني والمقدس استدعي هذا الكم من المداخل وأحيانا الأحكام الثقافية القاسية والساكنة عادة . وفى حديثه عن ذروة الصراع وحدود الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين قال ابو العلا ماضى مؤسس حزب الوسط أن هناك مشكلة فى التعريف ؛ ومشكلة فى التعميم بمعنى من هم العلمانيين ومن هم الإسلاميين فالتعميم نفسه به مشكله فمثلاً ؛ اذا قلت العرب او المسلمين أو المسيحيين فهذا تعميم وكذلك اليهود والغرب تعمييم والعلمانيين كذلك ؛ ولكن هناك تفاصيل وخريطة لكل نوع من هذه الأنواع فالإسلاميين يبدأون درجات مختلفة ووجهات نظر تبدء من العصيان لتصل الى الغلو والتطرف ؛ وكذلك العلمانيون يبدأؤ من رؤى معتدلة حتى تصل الى شدة التطرف فلدينا معتدلون فى هذا الطرف ومعتدلون فى ذاك الطرف ولدينا متطرفون هنا وهناك ؛ ومتطرفى العلمانيين مثل متطرفى الاسلاميين ؛ ورؤية واحدة فقط هى التى يتم اقرارها ولا قبول لغيرها ؛ كما ان عندهم ما يسمى الفكر الاقصائى ؛ فالمتطرفين العلمانيين لن يقبلوا احداً وكذلك الاسلامبيين ؛ كما انهم يعاملون الشعب والجماهير بإحتقار وينظروا له نظرة استعلائية والاثنين عندهم نفس المرض . وذروة الصراع فى اصرار طرف من الأطراف على شئ .

وفى الحديث عن موقف العلمانيين والأسلاميين من الفئات المهمشة قال سامح فوزى الباحث والكاتب الصحفى بأن هناك ثلاثة ملاحظات نقدية فى “موقف العلمانيين والإسلاميين من الفئات المهمشة” اولها التفرقة بين “العلمانيين” و”الإسلاميين” وردت في سياق صعود الإسلام السياسي بإختلاف فرقه، حيث عمد الإسلاميون، في سعيهم لإثبات الوجود وإقرار الهوية السياسية المغايرة، إلي نعت المختلفين معهم سياسيا بوصف “العلمانيين”، أي الذين لا يؤمنون بالمشروع الإسلامي. وبالتالي فهي تفرقة محملة بالقيم Value-Loaded، فلا يوجد تكتل يُطلق عليه “العلمانيون”، ولكن هناك مدارس فكرية، وتيارات سياسية متباينة، ما بين اليمين واليسار والوسط. فلا معني لاختزال التباين السياسي والإيديولوجي، وحشر كل اليساريين والليبراليين في كتلة صماء واحدة تحت مسمي “العلمانيين”، بحيث يقف علي النقيض منهم “الإسلاميون”.

وثانى الملاحظات هى التفرقة بين “العلمانيين” و”الإسلاميين”، فضلا عن كونها مشبعة بالتحيز المعرفي للإسلام السياسي، معيبة، وغير قابلة للتطبيق في الواقع السياسي. فإذا كان العلمانيون يتوزعون ايديولوجيا علي المدارس الفكرية المتعارف عليها، فإن الإسلاميين أيضا ليسوا كتلة واحدة، حيث يوجد بينهم تباين شديد، لا يمكن تجاوزه أو التهوين من شأنه. وهنا يقع ما يُطلق عليهم “العلمانيون” في خطأ – سياسي وثقافي- حين يرون الإسلاميين لونا واحدا، غير عابئين أو مدركين لألوان الطيف التي تعتمل داخلهم. الخلاصة أنه لا توجد كتلة علمانية تواجه كتلة إسلامية، ولكن توجد تيارات واتجاهات متباينة.

اما الملاحظة الثالثة فهى بناء علي ما سبق، فإن اختزال مشهد التضاد بين إسلاميين وعلمانيين لا معني له، فلا يوجد كتلة واحدة علمانية، ولا توجد كتلة واحدة إسلامية. وإذا كان أمر الأولي واضحا، فإن مسألة الكتلة الإسلامية المتنوعة يحتاج إلي شرح. فالحادث أن الإسلاميين مختلفون، فالإخوان المسلمين غير السلفيين، ومشروع حزب الوسط يختلف عن الفريقين معا، وإذا نضجت الحركة الإسلامية سوف تظهر تحيزات اقتصادية اجتماعية تفرق أكثر ما تجمع، بحيث يكون هناك “يسار إسلامي”، و”يمين إسلامي”، و”وسط إسلامي”.

وقال فوزى ان الموقف من المهمشين هى تعبير له معاني كثيرة. في علم الاجتماع المهمشون هم الفئات الأقل قدرة علي الوصول إلي موارد المجتمع “الفقراء مثلا”، وفي علم السياسة المهشون هي الفئات التي لا تتمتع بحضور يناسبها في عملية صناعة القرار علي مختلف المستويات، خاصة التشريعية، مثل”المرأة، الأقباط، الشباب، الفقراء، الخ”.

وقال فوزى إذا نظرنا إلي موقف الفرق الإسلامية المتنوعة للأقباط، سنجد الفريق الأول، يقر بمواطنة الأقباط، ولكن يقدم قراءات قلقة، ومضطربة. والفريق الثاني، يجعل الذمية أساس العلاقة مع الأقباط، ويجعل من النظرة العقائدية أساسا لموقفه تجاههم. أما الفريق الثالث فيحمل مساحة سجالية عقائدية في العلاقة مع الأقباط، بحيث ينزلق في كثير من الأحيان إلي تكفيرهم، والدعوة إلي نبذهم اجتماعيا.

أما العلمانيين، فهم خليط غير متجانس، لا أحد يعرف أبعاده. ولكن في كل الأحوال يمكن القول أن موقف الاتجاهات العلمانية- مع التجاوز في التسمية- ينطلق من فرضيات أساسية هي الدولة القومية الحديثة التي تستند إلي المواطنة، وفصل الدين عن الدولة (أو السياسة في بعض الإجتهادات)، وعدم احتكار سلطة الحديث بإسم الدين في المجال السياسي، والركون إلي المنافسة السياسية لشغل المواقع السياسية، وحظر التمييز بكافة صوره علي أساس اللون أو الدين أو الجنس أو العرق.

واضاف انه لا يعني ما سبق أن العلمانيين لا يصدر عنهم تمييز في مواجهة الآخرين، فهم يحملون- في أحيان كثيرة- نفس النزعة الاستبعادية التي يحملها الإسلاميون تجاههم، ويميلون إلي التمييز ليس علي أساس المعتقد الديني، ولكن علي أساس الموقف الفكري.

وبخصوص الإسلام والعلمانية بين أفكار النخبة وتصورات العوام يقول د. عمار علي حسن الكاتب والباحث في علم الاجتماع السياسي أن هناك همزات وصل بين الإسلام والعلمانية حيث يتصور المتعجلون والمغرضون على حد سواء أن الإسلام والعلمانية طريقان لا تلتقيان أبداً، لا في الفكر ولا في الواقع المعيش، ويروجون لمقولات نمطية جامدة عن تبادل الكراهية بين الاثنين، وعن صراع ظاهر وباطن بينهما، يعرضونه في صيغة “معادلة صفرية” فإما هذا أو ذاك، ولا جمع أو تقريب يضيق الهوة في الفكر والممارسة بين ما هو “إسلامي” وما هو “علماني”.

وقد ساهم الكثيرون من مفكري حركة “الإحياء الإسلامي” أو “الصحوة الإسلامية” الحديثة في تغذية هذا التصور، فكتبوا المؤلفات والدراسات والمقالات التي تحمّل “العلمانية” مسؤولية الكثير مما يجري في بلاد المسلمين من تخلف عن ركب الحضارة الحديثة، والاستلاب حيال الغرب، والتقليل من شأن العطاء الحضاري للعرب والمسلمين في زمنهم الزاهر والزاخر. ووصل الأمر إلى حد تصوير العلمانية بأنها مؤامرة على الدين، ونعت كل من ينادي بها أو يعتنقها بأنه إما كافر أو فاسق أو عميل لأعداء الأمة. والتقط شباب التنظيمات والجماعات السياسية ذات الإسناد الإسلامي هذه الرؤية ورفعوا شعار “لا شرقية ولا غربية” في المظاهرات والاحتجاجات، في وجه الغرب تارة، وضد الأنظمة الحاكمة طوراً، وذلك في ظل تقدير الإسلاميين لهذه الأنظمة ورجالها بأنهم علمانيون.

وقال عمار مثل هذه التصورات تنطلق من فهم خاطئ لكثير من القيم العامة العميقة التي ينطوي عليها الإسلام، بقدر ما تنبني على إدراك مزيف لمعنى العلمانية، يعطيها وزناً أكبر مما هي عليه، ويخلط جزأها بكلها، ويتوهم أنها نظرية متكاملة الأركان، مكتفية بذاتها، قادرة على الصمود والتحدي في كل وقت وكل مكان. كما أن هذا التصور يجور على الإسلام نفسه، حين يضع الدين السماوي الخاتم، الصالح لكل زمان ومكان، في مضاهاة أو مقارنة أو حتى مواجهة مع العلمانية، التي هي في النهاية منتج فكري أرضي ووضعي، قابل للمراجعة والدحض، وينصرف في أغلبه إلى العقل ومقتضياته، من دون أن يمس شغاف الروح وأغوار النفس ونبض القلب، كما يفعل الدين، في تجليه وجلاله.

لكن المضاهاة بين الإسلام والعلمانية يمكن أن تجري في ساحة ضيقة أو مساحة محددة تتمثل في الجانب الذي يتماس فيه الإسلام مع الممارسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. فعند هذا الحد يقدم الدين نفسه للناس بوصفه إطاراً نظرياً لبعض الممارسات الحياتية، بل يمكن أن يتحول الدين إلى إجراءات واقعية للتعامل مع المشكلات الجارية. وهنا يمكن للعلمانية سواء كانت مصروفة إلى الاشتراكية أم الرأسمالية أن تزاحم الأديان أو تساعدها أو تطرح نفسها بديلاً جزئياً لها، لكن في كل الأحوال والظروف لا يمكنها أن تزيحها أو تحل محلها، وليس بوسعها أن تؤدي ما تؤديه الأديان في الجوانب المرتبطة بالامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي، وليس بمقدور العلمانية أن تطرح إطاراً أكثر تماسكاً وأعمق مما تطرحه الأديان في النظرة الشاملة إلى الحياة، بكل مسراتها وأوجاعها.

مضيفا إننا لو أمعنا النظر، برويَّة وتجرد ونزاهة، سنجد أن الأبواب مفتوحة بين “الإسلام” و”العلمانية” في طورها الجزئي، الذي يقوم على معادلة مفادها أن “فصل الدين عن السلطة ضرورة، لكن فصله عن المجتمع جريمة” وليس في طورها الكلي الذي يحاول إقصاء الدين عن الحياة تماماً. فعند هذا الحد يمكن للطرفين أن يتقابلا، وللطريقين أن تلتقيا، على عدة أسس، لا ينكرها إلا جاهل أو متنطِّع أو متسرع لا يمعن النظر في الحقائق، أو متهرب من مواجهة الواقع.

وأول هذه الأسس أن الإسلام ليس ديناً روحانياً خالصاً، بل يزاوج بين المادة والروح في توازن وتعادلية جلية، والمادة مناط العلمانية، ومحور وضعيتها المنطقية التي لا تؤمن إلا بما هو محسوس وملموس، حتى لو كانت الأخيرة قاصرة عن تحقيق الامتلاء الروحي والإيمان بالغيب الذي يكمن في الإسلام والأديان عامة. لكن الفارق أن الإسلام لا يقف عند حد هذه المادية بل يتجاوزها إلى الحدسي والروحي، ويتحدث عن “المعرفة اللَّدُنية” التي لا تأتي من الحواس الخمس بل يلقيها الله سبحانه وتعالى في قلوب عباده، وهو الذي علم الإنسان ما لم يعلم، ويتحدث الإسلام أيضاً عن تزكية زينة الروح إلى جانب حضه على زينة الجسد.

وثانيها أن الإسلام لا يعارض “دنيوية” العلمانية، لأنه لا يلغي الدنيا لحساب الآخرة، إذ يقول القرآن الكريم “وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا”. ويطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من المسلمين أن يجدُّوا ويعملوا إلى آخر لحظة في حياتهم “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها”، ويقول: “فضل العامل على العابد كفضلي على سائر الناس”. والدنيا في الإسلام هي الطريق إلى الآخرة، وبالتالي فإنه يحترمها، ويقدم ما يؤدي إلى العيش فيها بقوة وسلام، يحقق للإنسان إنسانيته التي خلقه الله عليها، بوصفه خليفته في الأرض، وكونه كائناً مختلفاً عن الملائكة والجان والشياطين.

أما الأساس الثالث فهو أن الإسلام لا يعرف “الكهنوت” ولا يضفي أي قداسة على بشر مهما علت مكانتهم، ويجعل العلاقة بين الإنسان وربه مباشرة، لا وسطاء فيها ولا أوصياء عليها. وإذا كانت العلمانية قد قامت على محاربة هذه الوساطة، حين أساء رجال الكنيسة في أوروبا استخدامها لحساب السلطة الزمنية، فإن الإسلام من قبلها قد حاربها، وانتصر في “نصه” لهذا، وإن كانت الممارسة قد شابتها نقائص وعيوب من استغلال الإسلام لحساب الحكم، أو تحول بعض الفقهاء إلى سلطة فوق عقول الناس وأحوالهم ومصالحهم، أو ظهور طبقة “رجال دين” تسعى إلى احتكار إنتاج الرأي الديني.

والأساس الرابع هو أن الإسلام جعل من “التفكير فريضة”، إذ إن أول كلمة في كتابه المؤسس “القرآن الكريم” هي اقرأْ، وهناك عشرات الآيات في القرآن الكريم التي تدعو إلى التفكر والتدبر في خلق الله كافة ونفس الإنسان وأغوارها خصوصاً. وبالتالي فإن الإسلام في هذه الناحية لا يتعارض مع مطالبة العلمانية بإعمال العقل، وطلب العلم، لكنه يرفض المغالاة في الاعتماد عليه بحيث لا يصبح سلطان إلا سلطانه، أو يصير إلهاً يُعبد من دون الله، أو يتوهم أن بوسعه أن يستغني عن رسالة السماء، بدعوى أنه قادر لوحده أن يميز الحسن من القبيح، والخبيث من الطيب. ففي حقيقة الأمر فإن هذا التمييز يبقى مسألة نسبية، تخضع لاعتبارات معقدة تخص كل فرد على حدة، ومن ثم فإن ما يراه عمرو صواباً قد يراه زيد خطأً. أما رسالة السماء فإنها تضع إطاراً جامعاً مانعاً وقاطعاً للحكم على الأشياء والأفعال، وهو حكم يسري على الجميع، ويقوم على قاعدة أن “الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات”.

أما الأساس الخامس فهو إقرار الإسلام بأن الحكمة، القائمة على العقل والعلم والفهم وإدراك روح الإسلام ومقاصده وقيمه، جزء أصيل من أفكاره وتشريعاته، إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم “الحكمة ضالة المؤمن فأنَّى وجدها فهو أوْلى بها”. وبعض ما تطرحه “العلمانية الجزئية” يقع تحت طائلة الحكمة، لأن فيه ما يساعد العقل على التفكير، وما يقي الدين من أن يتحول إلى أيديولوجية سياسية، أو إلى سلطة حاكمة مصابة بكل عيوب وثقوب السلطة في كل زمان ومكان.

عند هذا الحد نجد أن الإسلام يستوعب العلمانية الجزئية، أو الأطوار الدنيا من العلمانية، والتي تنتمي إليها الأغلبية الكاسحة من العلمانيين العرب، بل لدى الإسلام ما يجعله غنياً عن كثير من أطروحاتها ومراميها، ويعارض فقط العلمانية الشاملة التي تسعى إلى إقصاء الدين خارج الحياة قاطبة، والعلمانية الإلحادية. لكن من المؤسف أن الكثيرين من الكُتاب والفقهاء الإسلاميين الجدد يخلطون الحابل بالنابل، ويتعاملون مع العلمانية على اختلاف درجاتها وألوانها باعتبارها شيئاً واحداً إلحادياً وكريهاً.

وعند هذا الحد أيضا لا نجد مشكلة مقعدة على مستوى النخبة في تجلية همزات الوصل بين الإسلام والعلمانية، فمهما كانت الاختلافات فإن إمكانية جسر الهوة قائمة، لكن المشكلة في العوام الذين اختطفوا الحياة العامة، وأداروها كيفما شاءوا، وسحبوا رؤيتهم للدين على الكثير من أمور المعيشة التي نحياها.

مؤسسة عالم واحد