16/1/2005
القاهرة في 16 يناير 2005
أعلنت الدول التسع عشرة الكبرى الدائنة الأعضاء في نادى باريس وهو الملتقى الدولى المعنى بجدولة ديون الدول الغنية المستحقة على دول العالم انها ستجمد دفعات الديون المستحقة على الدول التى تأثرت بزلزال المحيط الهندى وامواج تسونامى دون أن يتم الإعلان عن المدة التى سيتم خلالها تجميد دفعات الديون، وهو ما يعنى أن الدول المتضررة سوف تؤجل دفع الديون المستحقة عليها للدول الأعضاء فى نادى باريس طوال المدة التى سيتم الإتفاق عليها فضلاً عن عدم حساب فوائد الديون عن الفترة نفسها. وعلى الرغم من أن تلك الخطوة قد تبدو فى ظاهرها على أنها محاولة من الدول الكبرى لمساعدة الإقليم الآسيوى الذى شهد دماراً منقطع النظير جراء كارثة التسونامى، إلا أن قرار التجميد يحمل فى طياته العديد من المثالب التى دعت عدد من الدول المدينة نفسها لعدم الترحيب بالقرار، إما بسبب قلة ديونها أو لخوفها من تأثير الإلغاء على أهليتها للاقتراض، حيث يؤثر تأجيل الدفع على ترتيب الدول من حيث الأهلية، جاعلا الاقتراض أغلى وأصعب في المستقبل، فدولة مثل تايلاند عبرت عن مخاوفها من أن القبول بتجميد الديون مؤقتاً قد يعنى خضوع تايلاند لسيطرة متزايدة على سياساتها الإقتصادها من قبل الدول الدائنة والمؤسسات المالية الدولية، أما الهند فقد أعلنت إنها ستعتمد على مواردها وليس على الإعانات الدولية لإصلاح ما أفسده التسونامى.
ولا تتعلق الضغوط التى تعانيها الدول التى تعرضت لكارثة المد البحرى بمسألة الديون فقط، بل إن هناك عدد من المخاوف التى أثيرت بشأن تدخلات عسكرية من الولايات المتحدة وبريطانيا كشرط ضمنى للمساعدات الممنوحة لعلاج آثار الكارثة. فجزء من “المساعدة الإنسانية” التى قدمها بوش لدولة تايلاند مرتبط بإعلان الجيش الأمريكى تحركه إلى القاعدة العسكرية الجوية التايلاندية أوتاباو الواقعة على بعد 90 ميلاً من جنوب بانكوك على خليج تايلاند، الأمر الذى يعنى تواجداً عسكرياً أمريكياً فى تايلاند بحجة الإغاثة. وقد كانت هذه القاعدة موقع عمليات رئيسى تنطلق منه القنابل على فيتنام أثناء الحرب الأمريكية على فيتنام.
هذا فى الوقت الذى توصف به مساعدات الدول الكبرى للمناطق المنكوبة بأنها هزيلة ولا تقارن بما تنفقه تلك الدول فى الحرب ضد العراق. فإجمالى المساعدات التى قدمتها حكومة الولايات المتحدة بعد مرور إسبوع واحد على الكارثة كان أقل مما تنفقه الولايات المتحدة فى يوم ونصف على إحتلال العراق. وكذلك المساعدات التى وعدت بها حكومة تونى بلير لا تمثل سوى نفقات بريطانيا فى خمسة أيام ونصف فى العراق.
إن قرار تجميد الديون، وكذلك المساعدات المحدودة التى أعلنت عنها الدول الكبرى لصالح دول جنوب شرق آسيا مؤخراً لا تعبر بأى حال على رغبة حقيقية لدى الدول الكبرى فى مد يد العون وقت الأزمات. حيث تتعامل تلك الدول مع الأزمة باعتبارها فرصة لتحقيق مصالحها من خلال تكبيل الدول النامية بالشروط وإبتلائها بالتدخل سواء بشكل مادى من خلال التواجد العسكرى أو التدخل فى السياسات الإقتصادية لتلك الدول. وهى السياسة التى يدفع الفقراء فى الدول النامية ثمنها وحدهم بينما يصارع الصفوة من رجال المال والسلطة فى دولهم من أجل الحفاظ على مصالحهم . فدولة مثل الهند التى تشبثت لفترة طويلة أثناء الكارثة بموقف الرافض للمساعدات الأجنبية إلى حد أنها أنكرت العدد الحقيقى للضحايا وحرمت المئات من الناجين من الموت من الحصول على المساعدات تاركة إياهم فى الغابات دون أدنى أمل فى الإنقاذ، والتى رفضت أيضاً الخضوع لقرار تجميد الديون مفضلة الإعتماد على مواردها ترغب فى الحقيقة فى عدم حرمانها من فرص الحصول على ديون جديدة فى المستقبل.
على الرغم من أن الهند لا يمكن إعتبارها من الدول الفقيرة فهى دولة نووية، إلا أن الجزء الأكبر من الدخل القومى للهند وكذلك من الديون يذهب لصناعة السلاح بينما الفقراء من الصيادين والسكان الأصليين الذين يعيشون فى الجزر المهمشة لا يتمتعون بتلبية إحتياجاتهم الأساسية. وكذلك إندونيسيا التى تبلغ ديونها 150 بليون دولار، وهو مبلغ يعادل 65% من الدخل القومى لها والتى رحبت بقرار تجميد الديون تذهب النسبة الأكبر من الدخل القومى لها وكذلك من أموال الديون لصالح الجيش الإندونيسيى الذى يعد واحداً من أكبر الجيوش فى العالم، فضلاً عن أن غالبية ديون إندونيسا تمت أثناء حكم سوهارتو الذى عانى الشعب الإندونيسى فى ظل حكمه من الإضهاد والقهر والإفقار بينما حقق سوهارتو وحلفائه فى السلطة ثروات طائلة من وراء الحكم.
لقد إتخذ المناهضون لسيطرة الدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية على الدول النامية كارثة التسونامى فرصة لرفع شعارات المطالبة بإسقاط الديون كلية عن دول جنوب شرق آسيا وعن دول العالم الثالث بشكل عام.
وعلى الرغم من أن إسقاط الديون يعد مطلباً عادلاً يلقى كل التأييد والنصرة من كافة الداعين لتنمية دول الجنوب ورفض سيطرة القوى الكبرى ومؤسساتها المالية، غير أن هذا المطلب وحده لا يكفى للوصول للهدف المأمول. فطالما ظلت الحكومات فى دول العالم الثالث تفتقر إلى أدنى أسس الحكم الرشيد المبنى على الشفافية فى كل السياسات والمعاملات والقرارت والذى يعتمد على مشاركة المواطنين الذين يمثلون بشكل ديموقراطى حقيقى فى المجالس النيابية والبرلمان، الحكم الذى يتيح للجميع مسائلة الحكومات فى أوجه الإنفاق ويحقق لهم المساواة فى التمتع بثروات البلاد وإمكاناتها- نقول إنه فى غياب مثل تلك الأنظمة فى دول العالم الثالث، فإن إسقاط الديون لن يحقق شيئاً للفقراء فى تلك الدول اللهم إلا توقف زعمائها عن إتخاذ الديون كسبب معلن لسياسات الإفقار والفساد التى يتبعونها. هذا كما لن يمنع إسقاط الديون الحالية حكومات دول العالم الثالث من سحب المزيد من الديون تكبل بها أجيال أخرى قادمة بينما تنفقها تلك الحكومات على الجيش وعلى النزاعات المسلحة داخلياً وخارجياًوعلى بناء القصور وملأ الأرصدة فى بنوك أوروبا. بل أن المصالح المشتركة التى تربط بين الحكومات فى الدول النامية والدول الكبرى قد تمنع حكومات الدول النامية من وضع مطلب إسقاط الديون على أجندتها لما تجنيه من وراء علاقاتها المستمرة بالمؤسسات المالية الدولية والدول المانحة ولأنها فى واقع الأمر ليست من يدفع كلفة سداد الديون ولأن الدول المانحة لن تقبل أن يطالبها حلفاؤها بإسقاط الديون.
إن مركز الجنوب لحقوق الإنسان إذ يؤكد تضامنه الكامل مع مطلب إسقاط ديون العالم الثالث، فإنه يرى إن هذا المطلب يجب أن يسير جنباً إلى جنب مع الدعوة إلى تطبيق مبادئ الحكم الرشيد فى دول الجنوب والإعمال الكامل لمبادئ الشفافية والمشاركة والمساءلة والمساواة وتطبيق الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان السياسية والمدنية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية، فذلك هو الطريق الوحيد نحو تحرير الدول النامية فى جنوب الكرة الأرضية من سيطرة الدول والمؤسسات المانحة وشروطها القاسية التى تنتج الإفقار والتأخر لدول وشعوب العالم النامى.