5/2006

عندما ذهبنا إلي الفلاحة ماجدة السيد عجور نطرق باب بيتها المتواضع ظلت لدقائق صامتة ولم تفتح بابها , كنا نلمح طيفها من شقوق الباب ويقينا فإنها كتمت أنفاسها حتى لا تصل إلي مسامعنا , ولولا أن نادي عليها احد الفلاحين كان بصحبتنا وقال لها ” أفتحى دول مش شرطة ” ما فتحت لنا الباب , خرجت إلينا متوجسة وخائفة تنظر إلينا بقلق بالغ كأنها تنتظر شرا ما …. قلنا لها إطمني … قد جئنا لنري ما بك من إصابات … وقال لها الفلاح حمدي .. إطمني دول حبايبنا من حقوق الإنسان …!

كشفت لنا ماجدة عن كتفها وذراعها الأيمن … كدمة كبيرة سوداء بطول الساعد وعرض الكتف … تألمت بشدة وهي ترفع ذراعها وقالت وهي تبكي كان ذنبي أنني أدافع عن أرض زوجي محمد محمد مسعود , فدان مفيش غيره بنزرعه ومن محصوله بنعيش إحنا والعيال , علية البدراوى جاءت تاخده منا ظلما وعدوانا … صمتت وقالت الأرض دي ملكنا مش ممكن نسيبها .. نزلوا علي العساكر ضرب بالعصيان والبلطجية بالنبابيت … وقعت علي الأرض وأنا بأصرخ بأعلى صوتي … حرام عليكم يا ظلمه ده رزقنا ورزق عيالنا … هنروح من غير الأرض فين ” الفلاحة ماجدة كانت ضمن عشرات من الضحايا أصيبوا بإصابات مختلفة وهم يدافعون عن حقهم في الأرض وفي الحياة , فلقد شهدت حقول عزبة مرشاق التابعة لمدينة دكرنس بمحافظة الدقهلية وقائع معركة دامية غير متكافئة بين عشرات من الفلاحين وحجافل من الأمن المركزي والقوات الخاصة اقتحموا العزبة علي متن أكثر من 20 عربة أمن مركزي و 20 عربة قوات خاصة وأكثر من 25 ” بوكس ” بالإضافة إلي عشرات من البلطجية المسلحين بالمطاوي والجنازير والسيوف وذلك لتمكين ورثة زينب الأتربي ” عائلة البدراوى ” من الأرض التي امتلكها الفلاحون من الإصلاح الزراعي منذ أربعين عاما أو يزيد …!

ففي يوم الأحد الماضي الموافق 21 من مايو فوجئ الفلاحين وهم يعملون في الحقول بتلك الجحافل تقتحم حياتهم وسكينتهم وتطالبهن بتسليم تسعة فدادين ” كدفعة أولي ” من مائه فدان تم توزيعها علي 50 أسرة من فلاحي دكرنس بطريق التمليك من هيئة الإصلاح الزراعي في عام 1963 علي أن يتم دفع ثمنها علي 40 قسطا تنتهي في عام 2004 , وبالفعل قام الفلاحون بسداد الأقساط , ولكن عائلة عبد المجيد تمكنوا من الحصول علي قرار إفراج مؤرخ في 20/5/1975 بموجب القرار رقم 26 في 7/3/1975 واستطاعوا من خلال هذا القرار رفع دعاوى علي هيئة الإصلاح الزراعي وقرروا في دعواهم أن التسليم الفعلي للأرض لم يتم بسبب معارضة الفلاحين والجهات الشعبية وبناء عليه صارت أحكاما نهائيه تلغي الأمر العسكري رقم 132 لعام 1963 والذي بموجبه تم توزيع الأرض علي الفلاحين … الغريب في الأمر أن الأحكام التي حصلت عليها عائلة البدراوى مخالفة تماما للقانون 69لعام 1974الخاص بتصفيه الأوضاع الناشئة علي الحراسة حيث استثني هذا القانون الأراضي التي وزعت بالتمليك علي صغار الفلاحين وهو الأمر الذي ينطبق تماما علي فلاحي دكرنس … والأغرب أن موقف هيئة الإصلاح الزراعي كان سلبيا إلي درجة التواطؤ في تلك القضية , فلم تقم بتقديم القرار رقم 37 لعام 1982 وهو القرار الذي يلغي تماما القرار رقم 26 لعام 1975 والذي اعتمدت عليه تماما عائلة البدراوى في دعواها ضد الفلاحين حيث نص القرار رقم 37 علي سحب قرار مجلس إدارة الهيئة العامة للإصلاح الزراعي رقم 26 لعام 1975 وإلغائه وهو الأمر الذي يؤكد أحقية الفلاحين في الأرض التي امتلكوها بشكل قانوني …!

يقول حمدي عبد الحميد السحت لباحثي أولاد الأرض لحقوق الإنسان ” القصة تبدأ منذ عام 1952 حيث قامت زينب الأتربي بشراء 254 فدانا من الخواجة إلياس عبد الله يوسف مرسال ” وقامت ببيع 50 فدانا قبل ظهور قانون الإصلاح الزراعي وتبقي لديها 204 فدانا , وبعد صدور القانون تم فرض الحراسة علي 104 فدانا وتم توزيع 100 فدانا علي خمسين أسرة بطريق التمليك , وبعد رفع الحراسة تمكن ورثة زينب الأتربي “عائلة البدراوى” من استرداد المساحة التي كانت تخضع للحراسة ثم استطاعوا وبالتواطؤ مع هيئة الإصلاح الزراعي أن يستصدرو حكما في عام 1991 بأحقيتهم في 50 فدانا , الغريب في الأمر أن هيئة الإصلاح الزراعي قامت بالإفراج عن 50 فدانا وحولت تلك المساحة إلي جمعية الائتمان الزراعي والتي قامت بدورها باستصدار حيازة لورثة زينب الأتربي وتحول الفلاحون في لحظة من ملاك إلي مستأجرين , أما الخمسين فدان الباقية فقد صدر بهم حكم لصالحهم أيضا ولم تقم هيئة الإصلاح الزراعي بعمل استئناف , والأغرب أن ورثة زينب الأتربي قاموا برفع قضايا ريع ضد الفلاحين منذ صدور الحكم في عام 1991 وحتى اليوم حيث صدر حكم ريع ضد المزارع رمضان السيد الشربيني لصالح الورثة بمبلغ 17.5 ألف جنيه وباقي قضايا الريع ما زالت متداولة في المحكمة الكلية بدكرنس أي أنه موت وخراب ديار …!

هذا ما يحدث الآن ليس في دكرنس وحدها ولكن في أرجاء مصر كلها … فما حدث في دكرنس يوم الأحد الماضي حدث من قبل في سراندو وصرد وكمشيش وميت معجون وسيحدث غدا في قري أخري من أقاليم مصر … فالأرقام تقول أن إجمالي مساحة أراضي الاستصلاح الزراعي تبلغ 902 ألف و 69 فدانا تم توزيع 714 ألف و 208 فدانا علي الفلاحين وكان عدد الأسر المنتفعة في ذلك الوقت 346 ألف و 469 أسرة , حدث ذلك منذ أربعين عاما أو يزيد , وهو الأمر الذي يؤكد أن عدد الأسر خلال تلك السنوات زاد عن مليون أسرة , وهو ما يعنى أن مستقبل كل تلك الأسر والتي تعتمد اعتمادا كليا علي أراضي الإصلاح الزراعي أصبح …قاتما … خاصة في هذا المناخ الذي تتحالف فيه الثروة مع السلطة والإقطاعيون الجدد مع أصحاب النفوذ …!

نعود إلي دكرنس والتي يزيد عدد سكانها عن 100 ألف نسمة منهم 40 ألف فلاحا أما الرقعة الزراعية فلا تزيد عن أربعة ألاف فدانا أي بمعدل فدان واحد لكل عشرة فلاحين وهو الأمر الذي يعني ندرة الأرض الزراعية والتمسك الشديد والانتماء لها والاعتزاز بها … وكان من الطبيعي أن يقف الفلاحون في الحقول أمام جحافل الأمن المركزي التي جاءت إليهم لتنزع منهم الأمل الوحيد في الحياة …!

كان المطلوب في يوم الأحد الدامي أن تنزع ملكية 9 فدادين من كل من محمد محمد علي عمر الذي يعول 7 أبناء وزرق عوض رزق الذي يعول 13 فردا ومن ورثة أحمد محمد يوسف وهم 6 أبناء , ومن ورثة أحمد محمد يوسف وهم 6 أبناء ومن محمد أحمد جبر الذي يعول 10 أبناء ومن ورثة هاشم عبد الحميد نمير وورثة محمد السيد الجوهري وهم خمسة أبناء ومن عبد الحميد حامد إسماعيل المصاب بجلطة والعاجز عن العمل ولديه 8 أفراد أما المأساة فكانت في أبناء حامد الدسوقي المرسى زين فقد توفي والدهم وتركهم 7 أشقاء منهم ثلاثة شقيقات في عمر الزواج فقد تم انتزاع الأراضي منهم والبيت أيضا , بيت من الطوب اللبن كان يسترهم … إلا أن أولاد البدراوى قاموا بطردهم من ذلك البيت أيضا وأصبحوا الآن في العراء …! والشهادة لله …. فقد قامت عائلة البدراوى قبل يوم من الاقتحام بمساومة الفلاحين …. وقاموا بعرض عشرة ألاف جنيها لكل فلاح يترك أرضه …. غير أن الفلاحين رفضوا هذا العرض وتمسكوا بالأرض فكان ما كان … هل رأيتم عدلا أكثر من ذلك !

فقامت عائلة البدراوى باستدعاء البلطجية لمساعدة قوات الأمن في مهمتهم المقدسة …!
والغريب أن بعض هؤلاء البلطجية كانوا من قرية بهوت التي أكتوي فلاحوها ومازالوا بنار الإقطاع …! جاءوا إلي عزبة مرشاق التابعة لدكرنس يحملون السيوف والخناجر والنبابيت لذبح الفلاحين البسطاء في وضح النهار …!عندما وصلت جحافل الأمن في صباح يوم الأحد فوجئوا بوجود وكالات أنباء عالمية فرنسية وسويسرية ومن المصريين محمد عبد اللطيف مراسل الكرامة وبشير صقر مندوب جريدة الأهالي بالإضافة إلي مئات من الفلاحين الذين تضامنوا مع رفاقهم لمنع انتزاع الأرض منهم , ودارت المعركة منذ العاشرة صباحا وحتى الثانية بعد الظهر , فقامت قوات الأمن بسحل الصحفيين وانتزاع الكاميرات منهم واختطافهم ورميهم في عربات الشرطة , وألقت أكثر من 50 قنبلة مسيلة للدموع وحارقة تلقتها أجساد الفلاحين وآلاف من الضربات الموجهة بالعصي المكهربة وغيرها من ترسانة قوات الأمن بقيادة اللواء أحمد سالم مدير المباحث الجنائية بالإضافة إلي ومأمور مركز دكرنس وعشرات الضباط بمختلف الرتب , وقد أسفرت المواجهات عن إصابة العشرات ولم تسمح قوات الأمن بنقلهم بالإسعاف إلي مستشفي دكرنس العام وأبقتهم مدرجين في دمائهم وحولت المجني عليهم إلي متهمين بالتجمهر ومقاومة السلطات والبلطجة في المحضر رقم 6968 لعام 2006 جنح دكرنس , وتم القبض علي الصحفيين الأجانب وهم جريج واير من راديو سويسرا وثلاثة فرنسيين هم جان كلود أنوس وتوماس جادسو وألفيه بوفيه وتم الإفراج عنهم بعد احتجازهم أربع ساعات داخل قسم شرطة دكرنس وبعد تفريغ الكاميرات من الصور التي التقطوها , وقد تمكن الفلاحون من إنقاذ الصحفية الفرنسية فرانسواز من وكالة الأنباء الفرنسية بعد ضربها ضربا مبرحا وتم القبض علي 22 فلاحا بالإضافة إلي مراسل جريدة الكرامة محمد عبد اللطيف ومندوب جريدة الأهالي بشير صقر الذي أصيب إصابات بالغة في العمود الفقري والضلوع بالإضافة إلي كسر سنتين من أسنانه , أما الفلاحون فهم …فؤاد أبو المعاطي عبد الله – السيد محمد أحمد السيد – محمد عبد الحميد السيد – جمال محمد أحمد – يوسف السيد يوسف – محمدي محمود عبد الفتاح -محمود حمدي محمود – مسعد محمدين إبراهيم – السيد عوض أحمد راشد – راشد عوض أحمد – عماد محمد علي – علي محمد السيد الجوهري – عوض أحمد راشد عوض – محمد أبو الوفا هجرس – محمود محمد عوض – محمد إبراهيم السيد – محمود راشد عوض – السيد محمد عوض – محمود محمد علي – محمد صبري عبد الهادي – الشربيني السيد الشربيني .

وقررت النيابة حبس الفلاحين والصحفيين أربعة أيام علي ذمة التحقيق , وقد قضي قاضي المعارضات في يوم الثلاثاء الموافق 23 من مايو إخلاء سبيل المتهمين بضمان محل إقامتهم … وبالفعل تم الإفراج عن بشير صقر مندوب الأهالي ومحمد عبد اللطيف مراسل الكرامة غير أن الفلاحين مازالوا حتى الآن قيد الحجز في مركز شرطة دكرنس برغم قرار الإفراج …

تقول الفلاحة” توحه التي أصيبت إصابات بالغة في جميع أنحاء جسدها لباحثي أولاد الأرض ” زوجي عبد الحميد حامد إسماعيل مريض بالجلطة وعاجز تماما عن العمل , والأرض كانت مصدر رزقنا الوحيد , فماذا أفعل أنا وأولادي بعد أن طردونا , لقد حاولت أن أدافع عن أرضي لكنهم ضربوني بلا رحمة … كانت أقدامهم وأحذيتهم الثقيلة تدوس علي جسدي وأنا لا أقوي علي الصراخ … ”

أما السيد فؤاد أبو المعاطي فيقول ” قوات الأمن ضربتني وسقطت قنبلة مسيلة للدموع فوق رأسي ففتحتها سالت الدماء علي وجهي … لم يمنعهم نزيف الدماء من مواصلة ضربي ظلوا يضربون – يضربون حتى سقطت علي الأرض وتهاويت مغشيا علي فلم أشعر بشيء ” .

في شوارع دكرنس ستلمح الانكسار في الزوايا … والحزن في البيوت … شيء ما في عيون أطفالها أقرب ما يكون من اليتيم … الخوف سحابة كئيبة في سماء الحقول … وسؤال يتردد … فلا يرتد غير الصدى إلي متي سيظل أهلنا في القري عرضة للهوان … إلي متي سيظل الفلاحون فريسة لهذا التحالف المشبوه بين الإقطاعيين الجدد وأصحاب النفوذ .؟! ” من جانبنا … فإن أولاد الأرض لحقوق الإنسان تري أن انتزاع أرض الإصلاح الزراعي من أيدي الفلاحين أصبح ظاهرة تتفشي في كل أرجاء مصر وهو الأمر الذي يتطلب وقفة حازمة ضد كل محاولات التحايل التي يقوم بها ورثة الإقطاعيين لاستعادة مجدهم القديم … لذلك فإن أولاد الأرض تطالب رئيس الحكومة بإصدار قرار فوري بمنع تنفيذ كل الأحكام الصادرة ضد الفلاحين الذين امتلكوا الأرض من هيئة الإصلاح الزراعي طبقا للأمر العسكري رقم 132 لعام 1963 وتنفيذ القانون رقم 69 لعام 1974 والخاص بتصفية الأوضاع الناشئة عن الحراسة حيث استثني هذا القانون الأراضي التي وزعت بالتمليك علي صغار الفلاحين من الرد العيني … وهو الأمر الذي يدعو إلي إعادة جميع الأراضي التي أنزعت من الفلاحين بدون وجه حق , كما تطالب أولاد الأرض أعضاء مجلس الشعب بطرح قضية الإصلاح الزراعي للبحث في المجلس في أقرب وقت وإصدار تشريع جديد يحمي مكتسبات الفلاحين من أطماع القطاعيين الجدد .