2/2/2007

السيد الدكتور البغدادى المحمودى المحترم،
تحية طيبة وبعد،

تابعت الرابطة باهتمام المداخلة التى قمتم بها فى 21 يناير2007 أمام مندوبى “المؤتمرات الشعبية الأساسية” وهي تأسف لما جاء فى جزئها الخاص باوضاع الموظفين المادية والمعنوية. لقد كان الليبيون يتوقعون قرارات تمكنهم من مستوى معيشى إنسانى لائق يعكس حجم الثروة الوطنية وعدالة إعادة توزيعهاعن طريق رفع مستوى أجور ومرتبات الوظيفة العمومية التى تشكل أكثر من 85 % من الوظائف فى ليبيا وتحدد الى حد كبير مستوى معيشة الليبين الذين تعتمد حياة أغلبيتهم اعتمادا مباشرا عليها. فقد خابت توقعات الليبين حيث انكم لم تحافظوا فقط على المستوى المتدنى للأجور وهو ما يعد فى حد ذاته انتهاكا للحقوق الإقتصادية والإجتماعية لليبيين بل أضفتم انتهاكاتا خطيرة جديدة متمثلة فى قراركم الخاص بالتخلص من 400.000 موظف تحت دعوى إصلاح الخدمة المدنية وإعادة هيكلة الدولة.

وتود الرابطة، التى أنشئت من أجل الإصلاح، ان تؤكد انها ليست ضد إصلاح مرافق الدولة وإعادة هيكلتها بقدر ما هي ضد القرارت المتسرعة وغير المدروسة دراسة وافية خاصة تلك القرارات المتعلقة مباشرة بحياة الناس. ويجب النظر الى إعادة الهيكلة والإصلاح من منطلق تسهيل حياة الناس ورفع مستوى معيشتهم وتمكينهم من التمتع بحقوقهم الإقتصادية والإجتماعية. أما أن يتقرر تقليص الوظيفة العمومية فى دولة نفطية على أساس أن حجمها يمثل عبئا على الميزانة العامة فهذا مايعتبر منافيا لفلسفة الإصلاح وتجاوزا لدورالوظيفة العمومية وانتهاكا لحقوق الموظفين الإقتصادية. يجب التوقف عن تقييم الوظيفة العمومية من منطلق الكم فقط والوصول بها الى الغاية التى تكمن فى دورها الإجتماعى وفى الخلفيات التى جعلت منها اليوم تقدم ككبش فداء من طرف اولائك الذين اسائوا إليها وكانوا سببا مباشرا فى تضخمها وتوسعها. فقد جاء التضخم فى الوظيفة العمومية كنتيجة طبيعية لقرارنفس الجهات، التى تقرر اليوم التخلص من 400.000 موظف، بإلغاء شبه كلى للقطاع الخاص واستبداله فى آخر السبعينيات بنظام الاقتصاد الموجه الذي حصر الاستثمار في الحدود التي تقررها الدولة، وفرض قيودا صارمة على التجارة والمقاولات والمبادرة الفردية. فقد كان ذلك القرار قرارا سياسيا تعسفيا غيرمدروس نفذ بطريقة عنيفة عرفت ب “الزحف” على المؤسسات الإنتاجية ومصادرتها من أصحابها بالعنف أو بالتهديد به. ولا زال المجتمع يدفع، حتى اليوم، فى ثمن نواقص ذلك القرار الذى كرس اسحواذ الدولة على كل شيئ وعلى جميع الوظائف وقلص ارتباط الوظيفة بالإنتاجية من جهة وارتباط كفاءة الإنتاج بالراتب من جهة أخرى. وقد اتسمت الوظائف العمومية فى تلك الفترة، ولازال جزء هام منها حتى اليوم، بالفساد الفاحش حيث يتم التوظيف الى المناصب المؤثرة وتتم الترقيات الى وظائف أعلى والى مناصب المسؤولية بناء على اعتبارات سياسية لا علاقة لها بكفاءة الموظف أوبحسن أدائه الوظيفى. بل تلعب العلاقات العائلية والقبلية والشللية، تحت غطاء “الثورية”، دورا حاسما فى سد الأبواب أمام هذه الكفاءات وإحباط طموحاتها. وقد لعبت الوظيفة العامة، برغم نواقصها، دورا مهما فى المحافظة على هيكل الدولة فى وقت كان يعتبر تهديمها عمل “ثورى” ونجحت فى استمرار تقديم الخدمات الضرورية للمواطن فى ظروف غاية فى القسوة وقاومت، فى حدود امكانياتها، محاولات تسخيرها لتحقيق مصالح سياسية أو مالية خاصة معينة على حساب مصالح المجتمع والدولةً.

وفى غياب القطاع الخاص لم يجد الليبيون من مفر سوى الإلتجاء الى الدولة والمؤسسات التابعة لها والتى شكلت حتى عهد قريب المجال شبه الوحيد للتوظيف ومكافحة البطالة عن طريق استيعاب خريجى الجامعات والمعاهد. وفى ظل الركود الإقتصادى الذى نجم عن “الزحف” وتخريب القطاع الخاص وتدميره أصبح الإقتصاد الوطنى ولازال من أقل الاقتصادات تنوعا في منطقتنا وبين البلدان المنتجة للنفط. ولازال التقدم نحو الإنفتاح الإقتصادى وإقامة اقتصاد السوق يمكّن من التقليل من الضغط على التوظيف العمومى بعيد المنال وهويحتاج إلى نمو اقتصادي قوي ومنتظم لتلبية احتياجات ألاف الشباب العاطلين عن العمل والقوى العاملة التي تشهد زيادة متسارعة . كل هذا يتطلب، بالإضافة الى وقت طويل يعد بالسنوات، استثمارات عالية في رأس المال المادي والبشري، وكفاءة في استخدام الموارد الوطنية وإطلاق الحريات النقابية وإصلاح مؤسسات الدولة والذى لا يمكن تحقيقه إلا من خلال إصلاحات هيكلية واسعة النطاق تتوافق، من جهة، مع متطلبات تعزيز القطاع الخاص وتحسين مناخ المبادرة الفردية وتشجيع تنويع الاقتصاد دون المساس، من جهة اخرى، بجوهرالوظيفة العمومية وتأمين دمقرطة إدارتها. إن توقف النمو الإقتصادى وتردىمستوى المعيشة الذى شهدته ليبيا لم تسببه الوظيفة العمومية أو القطاع العام بقدر ماسببه فساد ممارسة سياسات التنمية التى اتبعت فى الثمانينيات والتسعينيات ويجب على الدولة تحمل نتائج سياساتها وأعمالها بدل تحميل موظفي الدولة تكاليف تلك النتائج مرتين ودون ذنب، مرة عن طريق الرواتب المتدنية ومرة عن طريق التقليص. إن مستوى إنتاجية الوظيفة العمومية والأداء الضعيف للإقتصاد الليبى بصفة عامة هو النتيجة المباشرة والطبيعية “لتسييس” الإنتاج الذى اتّبع فى الثلاثين سنة الأخيرة والذى بجل الولاء السياسى (الزحف) عن الاداء الإقتصادى والإنتاجية (القطاع الخاص) وأخضع الإقتصاد والتوظيف، على حد سوى، الى الولاء “الثورى” السياسى بدل من تسخير السياسة لخدمة الأداء الإقتصادى ورفع مستوى الإنتاجية والرفاه العام.

يجب تناول الوظيفة العمومية فى أي برنامج للإصلاح الوطنى والتنمية على أنها إحدى أهم وسيلة لتحقيق الآمان للدولة والمجتمع ووسيلة أساسية لضمان الحد الأدنى لتمتع الجزء الأكبر من الليبيين بحقوقهم الإقتصادية والإجتماعية. وليكون الإصلاح فعالا وذو قيمة فلا بد أن يندرج ضمن استراتيجية تنموية متكاملة تساهم فى سنها جميع شرائح المجتمع بما فيها شريحة الموظفين والعاطلين عن العمل والذى يقدرعددهم بأكثر من 300.000 عاطل. وفى هذا الصدد يرشح خبراء الإقتصاد، الذين قاموا، بناء على طلب السلطات الليبية، بمسح ودراسة وضع ليبيا الإقتصادى، .. رشحوا هذا العدد الى الإرتفاع نظرا “لقصور وتيرة الإصلاحات الحكومية الحالية عن تحقيق زيادة مستمرة في استثمارات القطاع الخاص والناتج غير النفطي”. ويتوقع نفس الخبراء ان معدل استثمارات القطاع الخاص غير النفطية سوف يكون متواضعا ولن يتجاوز 2% من إجمالي الناتج المحلي فى حين سيبلغ مستوى النمو الحقيقى قرابة 3.5% قبل ان يستخلص هؤلاء الخبراء بان هذا المستوى المتوقع من النمو “لن يكفي لخلق فرص عمل للقوى العاملة التي سوف تشهد زيادة بمعدل 4% سنويا”. و بلغة الأرقام فإن هذا الوضع يتطلب خلق 60.000 فرصة عمل سنويا على الأقل (4% من إجمالى القوى العاملة الذى يقدر عددها بأكثر من مليون ونصف المليون) ليكون قادرا على امتصاص هذه الزيادة والمحافظة على مستوي البطالة الحالية أي 300.000 عاطل ودون الأخذ فى الإعتبار ال 400.000 موظف المقرر التخلص منهم والذين سوف تضاف نسبة عالية منهم، إذا ما نفذ القرار، الى صفوف ال 300.000 ليبى الذين ليس لهم عمل الأن.

إن الأمرالمهم والعاجل الآن هو الإعداد من طرف الدولة لاستراتيجية متكاملة للخروج بالإقتصاد من النفق المظلم. ولا بد لأية إستراتيجية من التركيزعلى رفع كفاءة الإنفاق العام ومراقبة تنفيذه بصرامة للحد من التلاعب ببنود الميزانية والتى تحول أجزاء هامة منها – بسبب الفساد المالى والإدارى- الى عملات ورشاوى ليس لها علاقة بالمشاريع والأهداف التى خصصت لها. وينبغى ان تشتمل هذه الإستراتيجية أيضا على إصلاح الخدمة المدنية وترشيد الوظيفة العمومية ومراجعة قوانينها بما فيها قانون الرواتب والأجور لمسايرة الزيادة الهائلة فى غلاء المعيشة الذى لم تعد الرواتب الحالية قادرة لتغطية حتى الحد الأدنى من متطلباتها. إن رواتب الوظيفة العمومية الحالية ليست برواتب إنتاج بقدر ما هي مساعدة اجتماعية قررت فى زمن كان فيه الإستقطاب “الأمنى” و”الثورى” هو الهدف وليس الإنتاج والإنتاجية. وقد كان لهذه الرواتب المتدنية وقع غاية فى السوء على حياة المواطن وهو الفساد الإدارى والمالى وحتى الأخلاقى الذى لازال ينخر فى جسم المجتمع كما يشهد على ذلك قرار العقيد القذافى بإجبار كبار مسؤولي الدولة على تقديم جرد بثرواتهم داخل ليبيا وخارجها والتى جمع الجزء الأكبر منها بطرق غير شرعية (السمسرة والنصب والرشوة). ولحين تحقيق ذلك تود الرابطة اقتراح القيام بتنفيذ برناج عاجل للتغلب على القرار الخاص بالتخلى عن خدمات 400.000 موظف يشتمل على مرحلتين :

(أ) المرحلة الأولى وتشتمل على :
أولا :تجميد قرار الإستغناء عن خدمات ال 400.000 موظف.
ثانيا : القيام بمسح شامل لوظائف الدولة وإعادة تعريفها وتصنيفها.
ثالثا : إعداد برنامج تدريبى متقدم للعاطلين عن العمل الحاليين وللموظفين العموميين الذين يختارون طوعا الإستفادة من برنامج الدولة لتقليص الوظيفة العمومية (راتب ثلاثة سنوات قابلة للتمديد فى حالة فشل الدمج فى سوق عمل القطاع الخاص). ويمكن فى هذا الخصوص الإستفادة من الخبرات الدولية وخاصة خبرات منظمة العمل الدولية التى لها رصيد نظرى وعملى مهم فى مجال “إعادة التأهيل” حيث قامت بتنفيذ هذا النوع من البرامج فى عدة دول نامية وأيضا فى بعض الدول المنبثقة عن تفكيك الإتحاد السوفياتى. كذلك يجب الإستفادة من برامج مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (انكتاد) التى لها عدة برامج حول تنمية القطاع الخاص وعلى وجه الخصوص فى مجال إقامة وتنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة والتى توفرلها التدريب والمهارات والتكنولوجيا والمعلومات اللازمة لتحقيق اهدافها وتوسيع نطاق أنشطتها وإقامة روابط انتاجية مستقرة مع قوى السوق الفاعلة.

(ب) المرحلة الثانية وتشتمل على :
أولا: إعداد مسح شامل بعدد الموظفين الذين سيحالون الى التقاعد بسبب السن (العمر) خلال الخمسة سنوات القادمة.
ثانيا: تشجيع هذه الفئة من الموظفين على التقاعد المبكرمع دفع كامل لراتبهم الوظيفى الى ان يصلوا سن التقاعد القانونية
ثالثا: مراجعة قانون الخدمة المدنية وربط عدد وظائف الدولة باحتياجاتها الحقيقية من جهة وبالإنتاجية من جهة أخرى وإعادة تعريف الوظائف وتبسيطها وإلغاء التوظيف السياسى تحت كل مسمياته
رابعا: مراجعة المرتبات وتحويلها الى مرتبات انتاجية بدل المرتبات الإجتماعية الحالية وتطويع سياسة الأجوربما يتناسب مع المناخ الإقتصادى المنشود ومستوى المعيشة الذى يتطلع له الناس.

ختاما نود التأكيد بأن الإستغناء على هذا العدد الهائل من الموظفين فى وجود عدد مثله من العاطلين عن العمل سوف يساهم مباشرة فى زيادة سوء توزيع الدخل والذى يعتبر سببا أساسيا فى الإنتهاك المستمر لحقوق المواطنين الإقتصادية والإجتماعية. كذلك سوف يساعد هذا القرار على توسيع الهوة فى تفاوت الدخل بين الأفراد وأيضا بين المناطق ويمكّن الأقلية من مواصلة استيلاءها غير الشرعى على الجزء الأكبير من الثروة الوطنية والذى يعتبرأيضا انتهاكا لحقوق الإنسان من حيث النتائج الإجتماعية والأخلاقية والسياسية التى تترتب عليه. وتخشى الرابطة ان تسبب هذه الأقلية فى أحداث عنف إجتماعى، إزاء حالة يزداد فيها الدخل القومى وتجنى فيها أرباحا اقتصادية كبيرة، إذا لم تبادر الدولة بتطبيق وسائل توزيع قادرة على الحفاط على تكامل المجتمع وعلى منع استبعاد قطاعات ومناطق معينة من جني ثمار الثروة الوطنية التى يحق لجميع الليبين الحصول عليها.

مع تمنيات الرابطة الليبية لحقوق الإنسان لكم بموفور الصحة ولليبيا التقدم والإزدهار.

د. سليمان إبراهيم أبوشويقير
الأميــــــن العـــــــــــــام

السيد الدكتور البغدادى المحمودى
أمين ” اللجنة الشعبية العامة”