29/4/2006
في الخطاب السياسي العربي ونتيجة لتوازن القوى الاستراتيجي لصالح اسرائيل وفي غير صالح العالم العربي والشعب الفلسطيني, فقد انعكس الامر في تضخيم وفائض اعتبار للرأي العام الاسرائيلي, لدرجة الركون الى هذا الراي العام الاسرائيلي اكثر منه الى مخطط عربي اقليمي او فلسطيني. ولدرجة اعتبار الراي العام الاسرائيلي مصدر الفرج المنتظر.
وفائض الاعتبار للراءي العام الاسرائيلي لا ينحصر في السلوك الرسمي للعالم العربي والى حد كبير لسلوك النخب العربية بشكل عام, بل اصبح سلوكا عالميا. ولذلك يمنح المستوى الاوروبي الرسمي مثلا الراي العام الاسرائيلي وكل صوت اسرائيلي مؤيد لتسوية يمنحه وزنا اكبر بكثير من وزنه الفعلي حتى اسرائيليا. وهذا التضخيم هو تعبير عن عجز في التاثير وقرار جوهري بعدم اتخاذ اجراءات عقوبية ضد اسرائيل بل اتباع “استراتيجية التفاوض” التي لم تثبت ذاتها بتاتا. وقد تجلى الموقف الاوروبي الرسمي مثلا في الدعم المالي والسياسي شبه المطلق لمبادرة جنيف ووثيقة جنيف التي قادها يوسي بيلين.
كما انعكس عربيا رسميا ايضا في اعتماد الانظمة العربية الراي العام الاسرائيلي اكثر من اعتمادها الراي العام العربي الاقليمي او الراي العام في بلاها والذي تقمعه وتسعى باستمرار لاخماد صوته وبعضها يخمده بالذات اذا كان مناهضا لاسرائيل او ضد التطبيع. الراي العام العربي غائب او غير مستغل ايضا بسبب ضعف بنية الحركة السياسية المنظمة والناظمة للشعوب العربية.
اكثر من اجاد التاثير على الراي العام الاسرائيلي دون مخاطبته بل بفعل فرض واقع هو حزب الله ضمن قيادته المقاومة الوطنية اللبنانية في معركة تحرير الجنوب اللبناني. ومعادلة التاثير على الراي العام الاسرائيلي اساسها ليس الاقناع وانتظار التغيير الاسرائيلي, بل خلق واقع يفرض على الراي العام الاسرائيلي او يجعل المجتمع الاسرائيلي والدولة الاسرائيلية غير قادرين على تخمل تبعاته المختلفة. فتاثير حركة اربع امهات التي سبقت الانسحاب الاسرائيلي الاصطراري من جنوب لبنان لم يكن ليحظى بسعة لولا توافقه مع حسابات الامن القومي الاسرائيلية, ولولا نجاح حزب الله في خلق توازن استراتيجي معين, لا حاجة به ان يعادل قوة اسرائيل العسكرية بل يكفي ان يجعل اسرائيل تدفع ثمنا لا تستطيع المضي به.
والذي كانت احدى تجلياته مثلا انه في كل مرة قبل الانسحاب قصفت فيه اسرائيل مواقع لحزب الله واعتدت على لبنان هجر سكان الحدود الشمالية الاسرائيليون تلقائيا بلداتهم باتجاه مركز البلاد وتل ابيب. والمؤشر الاخر لهذا الوضع هو الدرس كما استوعبته اسرائيل خلال خطة فك الارتباط والانسحاب من داخل قطاع غزة, حيث مثل امام مركز اتخاذ القرارالاسرائيلي الداخلي منع تكرار درس جنوب لبنان وعدم اتاحة المجال للمقاومة الفلسطينية الاستفادة من قصف بلدات الجنوب بصواريخ القسام التي فاق فعلها السياسي اضعاف فعلها التفجيري.
في غياب استراتيجية عربية واستراتيجية فلسطينية ومقومات مشروع سياسي مبني على رؤية متكاملة وشاملة, فان الاعتماد سوف يتركز على الراي العام الاسرائيلي, بشكل شبه غيبي كما لو كان المخلص لذاته وللشعب الفلسطيني وللانظمة العربية. والاستراتيجية التي يسميها رئيس السلطة الفلسطينية استراتيجية التفاوض مع اسرائيل, هي نهج قد تكون له اسقاطات ماساوية على القضية الفلسطينية وبالذات على الحق الفلسطيني. التفاوض قد يكون نتاج استراتيجية او مركبا ضمنها لكن ليس بحد ذاته, خاصة ان التفاوض يعتمد صميميا على توازن القوى بين اطراف الصرع المتفاوضين ويحيّد الى مدى كبير المركب الاخلاقي ومفهوم الحق, لانه يجعل كل امر وكل حق خاضعا لالية التفاوض وتوازن القوى وخاضعا لمفهوم المساومة او البدائل بالذات في قضايا لا يريد صاحب الحق فيها بدائل مثل تقرير المصير وحق العودة للاجئين وانهاء المشروع الاستيطاني.
وفي حال الاستراتيجية الفلسطينية هي التفاوض فعمليا يصبح التفاوت بين التيارات الاسرائيلية المختلفة هو حول الاداء في التفاوض ضمن معادلة الاجماع الاسرائيلي المتبلور “الامن والتفاوض” ومع “غياب” الشريك الفلسطيني يبقى الامن بمفهومه المباشر وبمفهوم الامن القومي المحور الاهم لصنع السياسة الاسرائيلية ولتمحاولة تطبيق الاستراتيجية الاسرائيلية التي عبر عنها شارون والان حزب كديما وهي مخترقة للمعسكرات الصهيونية التقليدية الا وهي فرض الحل الدائم من طرف واحد. .
ان هذا تعبير عن الضعف الفلسطيني والضعف العربي. وكلما ضعف الفعل الفلسطيني والعربي ازداد وزن كل صوت اسرائيلي يساري داعم للحق الفلسطيني والعربي ولو جزئيا. لكن هذا الوزن يزداد ضمن اعتبارات فلسطينية وعربية وليس ضمن الاعتبارات الاسرائيلية بل يزداد هامشية على الساحة الاسرائيلية. فهو لا يؤثر اسرائيليا داخليا ولا يعمق الازمة الاسرائيلية البنيوية الداخلية, لان مقومات الازمة الاسرائيلية بدل ان تتفاعل داخليا تجد لها المخرج العربي والفلسطيني, وهذا المخرج هو الفرج العربي لاسرائيل الناتج عن الضعف العربي.
في المقابل هناك دروس هامة بالاتجاه المعاكس, وهي تؤكد انه كلما ازداد الفعل الفلسطيني والعربي المقاوم والهادف, كلما عمق ذلك الازمة الاسرائيلية الداخلية وكلما اثر على الراي العام الاسرائيلي وزاد وزن قوى السلام الاسرائيلية اسرائيليا وليس فلسطينيا وعربيا.
ما اود تاكيده هنا ان “اسطورية” الراي العام الاسرائيلي هي متغير تاثيره عربيا مرتبط بالضعف العربي وتاثيره اسرائيليا مرتبط بزيادة قوة الفعل العربي او الفلسطيني. باستثناء قضايا تعتبر ثوابت اسرائيلية او عليها اجماع قومي صهيوني. لان الحديث هنا – اسرائيليا وفلسطينيا رسميا – يدور بالاساس حول ادارة الصراع وليس حله.
وفي هذه المعادلة يندرج موضوع حق العود للاجئين الفلسطينيين الى وطنهم وديارهم وممتلكاتهم. وحق العود للاجئين هو اكثر القضايا رفضا ضمن الاجماع القومي الصهيوني بكل تيارته بدون استثناء ولا خلاف صهيوني تجاه رفضه.
حق العودة يختلف عن الاعتراف بالنكبة والامران ليسا سيّان. وحق العودة يختلف ايضا عن الاعتراف بالمسؤولية الاسرائيلية عن خلق مشكلة اللاجئين, ونحن نتحدث عن حق العودة وحل مشكلة اللاجئين بالعودة وليس “حلولا عادلة”, او “حلولا متفق عليها” ولا حتى “حلا متفق عليه”, لان كل هذه الصيغ تخضع حق العودة للمفاوضات المستندة الى توازن القوى لصالح المعتدي وفي غير صالح صاحب الحق – الشعب الفلسطيني.
الموقف الاسرائيلي بكل تياراته الصهيونية واضح ومناهض لحق العودة للاجئين سواء من هم خارج الوطن ام داخله. وكذلك فان الدولة واجهزتها والمؤسسات القومية اليهودية ضممت بشكل يمنع بنيويا حق العودة وكل تراجع سياسي افتراضي بشأنه سوف يصطدم بقوة الدولة ومؤسساتها وارتباطاتها مع يهود العالم وكذلك مع قوانينها بالذات قانون العودة وقانون المواطنة وقوانين الاراضي والتملك وانظمتها واجراءاتها.
اليسار الصهيوني وكذلك قوى السلام او القوى المناهضة للاحتلال لم يتطرقوا يوما الى قانون العودة وقانون المواطنة الا من باب النقاش اليهودي العالمي والاسرائيلي الداخلي حول: “من هو اليهودي؟” اي الصراع بين التعريف المتدين الاصلاحي ام المتزمت. لكن اليسار لم يناقش قانون المواطنة او العودة من باب حق اللاجيء الفلسطيني ولا حتى من باب حقوق الانسان كون القانونين عنصريين.
اوساط معينة ضمن الاكاديميا الاسرائيلية وبالذات تيارات “ما بعد الهصيونية” POST ZIONIZM لا تدعو لتطبيق حق العودة, بل انها اخذت تنشر حول الجرائم التي ارتكبتها اسرائيل والتطهير العرقي عام 1948 ومسؤولية اسرائيل. لكن هذا ليس بالضرورة موقفا اخلاقيا, وخير مثال على عدم اخلاقية هذا الموقف هو تصريحات بيني موريس الذي عرف عنه بكشف الكثير من جرائم اسرائيل لكنه في العام الفائت ولاول مرة يعبر عن موقفه الشخصي, عمليا دعم ممارسات التطهير العرقي التي نفذها بن غوريون كاستراتيجية وشرط لقيام دولة اليهود عام 1948. الطرف الوحيد الذي تعامل مع موريس وابحاثه التاريخية كما لو انها مرجعية اخلاقية كان الطرف الفلسطيني. لكن الطرف الفلسطيني والعربي ايضا تعامل مع بيني موريس كحالة اخلاقية واعتمد “الحقيقة” التي اتى بها موريس اكثر مما اعتمد الحقيقة التي اتى بها مؤرخ فلسطيني او عربي حتى وان كانت الحقيقة (المجزرة) هي ذاتها.
الرهان على اليسار الصهيوني كما لو كان مؤهل للاعتراف بحق العودة وتطبيقه هو وهم كبير. اليسار الصهيوني وحركة العمل التاريخية هي المسؤولة عن نكبة وتهجير الشعب الفلسطيني وسلب الوطن عام 1948. وهي التي قادت احتلال الوطن الفلسطيني وتدميره وتشتيت اهله. وهي المسؤولة عن محاولة اخفاء كل اثار جريمتها تاريخيا, وهي المسؤولة عن اساس احتلال العام 1967 لباقي اجزءا فلسطين التاريخية. وهي صاحبة الاستراتيجية الدمغرافية بتداعياتها منذ نكبة العام 1948 ولغاية خطة “تطوير النقب والجليل” العنصرية الاستيطانية العام 2006. فهل اليسار مستعد للتنازل عن الامتيازات المادية والمعنوية والسياسية التي حصل عليها كونه يهوديا ووفرتها له دولة اليهود التي قامت على انقاض الشعب الفسلطيني الذي تم تهجيره ونهب خيراته ومصادرتها لخدمة اليهود ودولة اليهود؟!
المراهنة على اليسار الاسرائيلي هي وهم في سياق حق العودة. والاستراتيجية الفلسطينية يجب ان تنطلق في مرجعيتها من القانون الدولي والشرعية الدولية وحق تقرير المصير هذا من جهة وفي المقابل من قدرة وحق الشعب الفلسطيني ان يقول “لا” لاي بديل عن حق العودة او اية تسوية تجاهه ولا تضمن احقاقه. اليسار الصهيوني ليس الحليف في هذا الشأن والموضوع ليس سوء تفاهم وبحاجة الى تفاهم او اقناع. الموضوع هو لب الصراع القومي في فلسطين.
كما ان المسألة مع الراي العام الاسرائيلي ليست كيفية اداء المفاوض الفلسطيني بل مضمون اداء الشعب الفلسطيني وتحديد طبيعة المرحلة وطبيعة حق العودة. فان طبيعة حق العودة والمعركة لاحقاقه لا تندرج ضمن عملية بناء الدولة على اساس حل الدولتين بل ضمن عملية التحرر الوطني الفلسطيني واعادة بناء الشعب الفلسطيني.
وعليه فالنضال من اجل حق العودة هو بالاساس رسالة فلسطينية داخلية ورسالة للعالم وتحميله المسؤولية ورسالة للعالم العربي ورسالة الى اسرائيل ان لا تراجع عن حق العودة ولا انهاء للصراع الاسرائيلي الفلسطيني. وحل الدولتين لا يوفر الضمانة لمركب الصراع الجوهري – حق العودة.
الاستثمار في الراي العام العالمي منبعه انه ليس في مصلحة الفلسطينيين حصر الصراع او اي مركب منه بما فيه اللاجئين وفلسطينيي48 ضمن الدائرة المحلية الاسرائيلية الفلسطينية, وعدم القبول بتجزيء القضية الفلسطينية كما لو كانت قضايا غير متصلة, وهذا يرفضه اليسار الصهيوني بذات القدر مثل اليمين.
المراهنة الاساسية هي على الشعب الفسلطيني بكل اجزائه, وفقط قوة الشعب الفلسطيني ونضاله التحرري مدعوما عربيا وعالميا هي التي توفر امكانية زحزحة الموقف الاسرائيلي والراي العام المحلي ضمنه. ودون تبني رؤية فلسطينية متكاملة واستراتيجيات تضمن التقدم لتحقيقها فان الراي العام الاسرائيلي وموقف اليسار ضمنه سيكون اسطويا بالعين العربية في حين سيكون عقيما على ارض الواقع الاسرائيلي. فالمراهنة الفعلية ليست على اقناع الراي العام الاسرائيلي بل من خلال فرض امر واقع معتمد على ارادة الشعب الفسطيني ومحولا حق العودة الى مركب جوهري في صلب المشروع التحرري الفلسطيني الذي لا بد من اعادة صياعته على اساس الحق الفلسطيني المسلوب.