25/11/2007
يحمل هذا العنوان قدرا كبيرا من المفارقات. أولها أن تكون الهيئة السورية لشؤون الأسرة هي من يقف خلف هذا المنع! وهذا المفارقة هي مما كنا نود تأجيل الحديث عنه حتى نفسح المجال واسعا أمام الرئيسة الجديدة للهيئة السورية، رغم وضوح “الرؤيا” التي باتت تقود هذه الهيئة منذ قدمت د. منى غانم استقالتها (أو أشير لها بضرورة تقديم استقالتها!). وهي الاستقالة التي رفضت د. غانم الحديث عنها إلا بتعليق وحيد أنها هي من قدمت هذه الاستقالة لأسباب شخصية. دون أي إيضاح آخر. هذا حق مطلق للدكتورة منى، كما هو حقنا أيضا أن نعمل عقلنا لنعرف الحقائق التي دائما ما “ترمى في البئر” في سورية!
الحقيقة هي أن استقالة د. غانم لم تكن سوى المسمار الأخير في نعش الهيئة السورية لشؤون الأسرة. بدأ دق المسمار الأول منذ أواسط 2006 حين بدأ تفريغ الهيئة من الكوادر التي تحمل رؤيا واضحة بخصوص الأسرة السورية وضرورة تطويرها على أساس المواطنة. أي في مواجهة العنف الممارس ضد المرأة والطفل فيها، وعلى أساس تأمين مستلزمات تمكين المرأة واشتراكها الفعال في مجتمعها، وكل ذلك على أساس ضرورة تأمين الحقوق المتساوية والواجبات المتساوية والفرص المتساوية مع الرجل لها. وبحجة تطوير الكادر على أسس صحيحة، تم إقصاء الكثيرات والكثيرين من ذوي الرؤيا واستبدالهم بـ”ذوي الشهادات” الذين لا يحملون أية رؤية لقضية الأسرة في سورية، اللهم إلا بعضهم الذي يحمل رؤية تقول بضرورة منع الأسرة السورية من الخروج من ظلام السيطرة الذكورية المطلقة إلى نور العدالة والمساواة!
تلاحقت بعدها المسامير، من التضييق على مشاريع الإعلام الجماهيري المناهض للعنف ضد المرأة وضد الأطفال، من ملصقات وكراسات وندوات.. (ويذكر في السياق أن وزارة التربية مثلا اعترضت على ملصق يحارب العنف ضد التلاميذ بحجة أن هذا الملصق يشكل “اعترافا” بوجود العنف ضد التلاميذ في المدارس السورية، وهو ما تنكره تماما وزارة التربية!!). ومن ثم تلاحقت الأحداث ليتم فصل ثلاث نساء من كادر الهيئة كن من أعمدة العمل فيها كن من النساء ذوات المعرفة والخبرة والتجربة والرؤيا. وليلحق هذا العمل مباشرة بالمزيد من التضييقات على الهيئة السورية لشؤون الأسرة، ليختم كل ذلك بالإشارة إلى رئيسة الهيئة بالاستقالة! وهي التي كان لها الفضل الأساسي في بناء الهيئة لسمعتها الجيدة سواء من حيث آليات عملها، أو أهدافها، أو تعاونها مع الخبرات والكوادر المحلية، أو انفتاح أبوابها وأفقها على أفكار المجتمع المدني! الذي عدته شريكا لا عدوا!
وفي الواقع يعرف الجميع أن دق المسامير في نعش الهيئة لم يأت “عفو” الخاطر. بل هو أحد نتائج خطين عملا بالتعاون والتكافل والتضامن: الأول هو السيدة وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، د. ديالا الحاج عارف، التي اعتبرت الهيئة عدوتها الأولى (بعد المجتمع المدني طبعا)، وهذا طبيعي فهي قد كشفت حقيقة الوزارة، والسيدة الوزيرة على رأسها، بصفتها وزارة التدمير المجتمعي ومناهضة تطوير الأسرة السورية وخاصة المرأة فيها. وعملت على تمرير التقارير تلو التقارير بحق الهيئة وما تعمله، وعملت على تشويه صورتها والتضييق عليها بكل إمكانياتها، خاصة بإمكانياتها المعروفة عبر “الأجهزة” التي ترتبط بها. والثاني هو مجموعة من رجال الدين الذين لم يتحملوا فكرة أن هناك من يعمل على قضية المرأة باتجاه تقدمي وإنساني، وهي القضية الأساسية بالنسبة لهم ليبرزوا طاقاتهم في إغلاق العقول والسيطرة على البشر!
المفارقة الثانية هو أن صياغة العنوان هي أصلا اصطلاح تركيبي لا يستخدم عادة إلا فيما هو عكس مضمون العنوان. فعادة تكون الدعوات على النحو التالي: الجهة الفلانية والجهة الفلانية تدعوانكم لحضور… الخ. أما الخصوصية السورية فتقتضي العكس. أي أن تتشارك جهتين في “منع” نشاط!
أما المفارقة الثالثة فهو أن الجهتين هما جهتان معنيتان مباشرة بالعنف ضد المرأة، ومناهضة هذا العنف، نظريا على الأقل. وما قامتا بمنعه هو ندوة مخصصة لمناهضة العنف ضد المرأة، في اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة. فيما يعكس حقيقة التوجه السوري الذي بات صريحا بمعاداة كل عمل يهدف إلى تطوير واقع المرأة السورية، والعمل بكد لأجل انتزاع حتى المكتسبات القليلة التي سبق لها أن حصلت عليها قبل عقود من الزمن!
فما قصة هذه الندوة؟
كانت الجمعية الوطنية لتطوير دور المرأة قد شاركت قبل أشهر في زيارة عمل إلى تركيا، زيارة ضمت ممثلين عن العديد من الجهات الحكومية والمدنية السورية، وهدفت إلى الاطلاع على تجربة تركيا في مجال مناهضة العنف ضد المرأة، خاصة في مجال حمايتها من هذا العنف. وتضمن برنامج الزيارة جولات ميدانية على ملاجئ، ومراكز شرطة، وبلديات، وجمعيات.. الخ. في دولة تعد من الدول الأكثر “نموا” فيما يتعلق بمناهضة العنف ضد المرأة.
وكان ممثل الجمعية في الزيارة، د. هاني خوري، مهتما بشكل مميز. إذ لم يترك شاردة وواردة إلا وحاول التقرب منها ورؤيتها عن كثب وفهمها وفهم آليات عملها. ونتيجة لهذا التميز استطاع أن يعد تقريرا مميزا حول الزيارة كشف فيه عن واقع التطور الحاصل في تركيا، وآلياته، وبعض الملاحظات عما يعنيه ذلك بالنسبة إلى سورية.
في الواقع إن هذا التقرير هو التقرير اليتيم عن الزيارة. فجميع الوفود قاطبة، الحكومية والمدنية، لم تتكلف عناء إعداد مثل هذا التقرير. والذين تكلفوا عناء الكتابة وضعوا تقاريرهم الخاصة لمؤسساتهم من منظور بيروقراطي لا يفيد شيئا. إلا أن ذلك لم يعجب الهيئة السورية لشؤون الأسرة “بحلتها الجديدة”، هذه الحلة التي تعتقد أن الهيئة هي مجرد “مركز دراسات” يقوم بما تطلبه منه الحكومة، ووفق ما تريد الحكومة، وترسم الأهداف التي تريدها الحكومة. إلى حد أن الهيئة لا تعد من واجبها أن تدلي برأيها حول موضوع بالغ الأهمية مثل موضوع إلغاء الدعم الحكومي! ولا انعكاسات ذلك على تسرب الأطفال من المدارس! ولا على عمل المرأة! ولا على العنف العام في المجتمع! ولا على بطالة الشباب وأوضاعهم! وطبعا هي ليست معنية بالعنف ضد المرأة، ولا بتمكين المرأة، ولا بالأسرة ككل! كيف لا وقد تحولت الهيئة إلى مجرد مؤسسة لخدمة سياسات الحكومة، ولتبرير قراراتها، بدلا من أن تكون هيئة تعنى بشؤون الأسرة، وتقوم بالدراسات بما يتلاءم مع ضرورة تطويرها! إذا لم يعجب الهيئة السورية لشؤون الأسرة بحلتها الجديدة أن يكون هناك من يقول علنا ما الحال الذي وصلت إليه تركيا في مجال مناهضة العنف ضد المرأة. فذلك سيكشف صورة الحقيقة في سورية. سيكشف أكثر من المسؤول الحقيقي عن مناهضة العنف ضد المرأة، وبالتالي من هو الذي يدعم هذا العنف عبر وقوفه ضد من يناهضه! سيكشف أيضا صورة الحقيقة القائلة أن للمجتمع المدني دور رائد في تطوير الأسرة السورية. وأن هذا الدور لا يمكن القيام به في ظل القبضة الحقيقية لوزارة التدمير المجتمعي والبطالة. ولا في ظل الشريكة الجديدة لهذه الوزارة، أي الهيئة السورية لشؤون الأسرة!
فما الذي يجب علمه؟ بسيط للغاية. إنه السلوك الأكثر اعتيادا في سورية: أن يمنع النشاط من أساسه. وهذه هي حقيقة الوضع. في اللحظات الأخيرة، تم إلغاء النشاط بحجة أنه لم يجر التنسيق مع الهيئة السورية لشؤون الأسرة في إقامته؟ إنها مفارقة أواخر عام 2007! الهيئة السورية لشؤون الأسرة التي كانت، قبل أن توضع في النعش، رافعة للعمل المجتمعي، تصير الآن مؤسسة تابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وتبدأ نشاطاتها بأسوأ ممارسات الوزارة!
هل هذه مجرد تهمة متحاملة على الهيئة؟ قد يبدو الأمر كذلك. وهي تستطيع أن توضح موقفها على كل حال إن لم يكن هذا هو موقفها. لكن من الوقائع أيضا أن الهيئة السورية كانت قد عارضت سلفا إقامة هذه الندوة. ولم يكن لديها أي عذر في ذلك سوى أن “من يجب أن يقوم بهذا النشاط هي الهيئة وليس أية جهة أخرى”! وطبعا الهيئة لن تقوم بذلك لأنه يتعارض مع مصالح ورؤية من يستطيع أن يخرب على الحلة الجديدة هناءتها! ولأنه يكشف الدور الحقيقي الذي يجب أن تقوم به الهيئة، والذي قامت بخطوات رائدة باتجاهه قبل أن يجري “قبرها”!
هكذا إذا، في اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة، تتسارع الأحداث في سورية في مناهضة كل مناهضة للعنف ضد المرأة، وفي مناهضة كل نشاط يسعى إلى تطوير دور الأسرة، والمرأة في المركز منها! فيما يفضح حقيقة أن التقارير والتصريحات الرسمية السورية حول وضع المرأة ليس إلا من باب الاستهلاك الإعلامي الموجه للغرب بهدف إظهار سورية “بلد حضاري” في هذه المسألة. بينما نساؤه ما تزال تئن كل لحظة تحت وطأة العنف، والحرمان من حقهن بمنح جنسيتهن لأبنائهن، والطلاق التعسفي، والزواج المتعدد، وحرمان الوصاية على الأطفال، وحرمانهن من حقوقهن المادية المتراكمة في الزواج.. بل ما تزال تئن تحت “سكين الشرف” الذي ما يزال يعمل ذبحا بهن على مذبح “الشرف الذكوري” المعزز قانونيا وحكومياً!