15/9/2005

الحياة – عيسى قراقع

في أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين أبصر النور الشاب فؤاد قاسم عرفات الرازم يوم 9/12/1957، مفعم بحب فلسطين، عشقها حتى الثمالة وأراد أن يقدم لها مهر يليق بقدسية ترابها ورحيق هوائها

فما أن أنهى تعليمه في الكلية أصول الدين في بيت حنينا حتى هب فؤاد الرازم أو فواز ملبياً نداء فلسطين المتواصل على مر الأجيال للفداء وململما أنينها وجراحها بقلب حنون

اعتاد فؤاد أن يؤدي صلاته في الأقصى الشريف ورغم حادثة سنه أصر على أداء فريضة الحج ولم يكن قد مضى على عودته إلا أيام قليلة عندما هجم الإعصار الهمجي من جنود الاحتلال الصهيوني مقتحماً منزله وعاث فيه فساداً وانتزع فؤاد في تلك الليلة القارسة البرد والعاصفة الأمطار يوم 31/1/1981

وتصل المفاجأة لكل من يعرف فؤاد ذروتها عندما يصل إلى علمهم قائمة الشرف التي تذرعت بها سلطات الاحتلال لاعتقاله وإخضاعه لتحقيق مرير وقاسي ومؤلم استمر أربعة أشهر متواصلة دون رحمة، فؤاد ابن الاثنين وعشرين ربيعاً حينها تعرض لموجات شرسة من التعذيب الوحشي أوصله إلى حالة صحية سيئة لانتزاع المعلومات منه ولكنه بشجاعة نادرة وقف كالصخرة متحدياً جلاديه.

ولمحاولة الضغط النفس عليه اعتقل المحتلون والدي فواز وأخضعوهما لمضايقات جعلتهم يدخلان المشفى فور إطلاق سراحهما، إذ وضعا في غرفة تطلق هواء ساخناً وخانقاً ورغم طرقتها المتواصلة على الباب لم يسمح لهما بالمغادرة إلا الساعة الرابعة فجراً بعد أن فقدت الوالدة الوعي وأصيب الوالد بنوبات من الغثيان والقيء المستمر لساعات ليضطر الوالد والوالدة على الرغم من المرض الذي اجتاحهما إلى أن يسيرا على أقدامهما أربع ساعات للوصول للبيت

ورفض فؤاد الإدلاء بأي اعتراف يشفي غليلهم وغيظهم فلجئوا إلى اعتقال شقيقته نبيلة ” أم نضال ” – وهي والدة لطفلين حين ذلك – مع والدته بالقوة. وإيهام فؤاد بالاعتداء عليهما لزيادة الضغط النفسي عليه.

وتروي أم نضال تفاصيل زيارتها لفؤاد في ذلك الحين فتقول: “لم يكن الجالس والشاحب والمتعب أمامنا هو أخي فؤاد بل شبحه، لم يقوى على الحديث إلينا كان جلده جافاً وعيناه حمراوين غائرتين وكان الزمن قد قطع معه شوطاً كبيراً كان يتنفس بصعوبة ويلقي صدره على رأسه بإرهاق بين الحين والآخر” وأضافت: ” رغم معرفتي أن كل حديثنا سيسجل إلا أنني اقتربت منه وصحت فيه :”كلنا فداء الوطن، فؤاد لست الأول ولن تكون الأخير اصبر واصمد ونحن معك بإذن الله”.

ولم يكد يرتد صدى صوتها حتى هجمت كلاب المخابرات لتلقيها مع والدتها في غرفة مظلمة لاثني عشر ساعة دون طعام أو شراب وخلال فترة وجودهما تنطلق صرخات كاذبة لإيهام فؤاد بالاعتداء عليهما.

ويأتي يوم المحاكمة لإصدار الحكم بعد 36 جلسة سابقة من الأخذ والرد واستجواب شهود ادعاء ضده بلغ عددهم 130 شخصاً في 9/6/1982 حيث سمح للوالدة فقط بالحضور وبقي أفراد أسرة فؤاد خارج مبنى المحكمة بانتظار إصدار الحكم وبشجاعة نادرة تحدى فؤاد القاضي الذي كان مسلحاً ويلبس بزة عسكرية وبعد بالنطق بالحكم الجائر القاضي بسجن فؤاد الرازم لثلاثة مؤيدات وأحد عشر عاماً بتهم قتل جنود وعملاء وحرق سيارات السماسرة وباعة الأراضي في القدس وتحضير العبوات الناسفة والتحريض وتجنيد الشباب في خليته ويهجم على القاضي مع أحد زملائه ويحاول انتزاع سلاحه ولكن الحراس يرشونه بالغاز المسيل للدموع ويوسعونه ضرباً حتى يفقد وعيه داخل المحكمة ويقيد وينقل إلى سجن الرملة، ويواصل الرازم كفاحه ضد الاحتلال حتى من خلف القضبان ليصبح عميد معتقلي حركة الجهاد الإسلامي في عام 1988 وأصبح راعياً وحاضراً لفكرها هناك.

أما السجون التي تنقل بها خلال 25 عاماً فهي الرملة وعسقلان وبئر السبع ونفحة وشطة وعودة إلى بئر السبع مرة أخرى، فيستمر في عملية التعبئة وفضح جرائم العدو ضد أبناء شعبه في خطب الجمعة التي يلقيها فيكون عقابه قاسياً مريراً في عزله لشهور ومنعه من الزيارات والتضييق على أهله.

25 عاماً قضاها فؤاد خلف القضبان لم تفت من عضده ولم تزعزع معنوياته بل ظلت محلقة في السماء صافعة غطرسة المحتل صباح مساء وكل يوم يشتد إصرار بأن الحق سينتصر ويوصي أهله في كل زيارة بكلمات رنانة قوية تنبع من إرادة فولاذية صلبة:” لا تتوسلوا لأحد بل الجئوا إلى رب العالمين فهو نصيرنا وهو مغيثنا والفرج قريب بإذن الله لا بإرادة المحتل والصبح قريب فاصبروا فإنني صابر ومحتسب “والده الثمانيني وبصلابة لو وزعت على الحضور لفاضت عنهم في حفل أقمته حركة الجهاد الإسلامي في إقليم القدس لمناسبة مرور 23 عاماً على اعتقال الرازم قال :” إن فؤاد وغيره ممن أمضوا هذه السنوات الطويلة في السجون وهذه السنوات الطويلة في السجون هم رمز وعنوان قضية الأسرى جميعاً…

هم عنوان لهذا الملف المنسي المغيب… وهؤلاء لا يمثلون فقط معاناة آلا لاف من الأسر في السجون، بل معاناة آلا لاف من الأسر والعائلات في السجن الكبير”.

وأضاف والده ” المشكلة وما يؤلم حقاً أنه لم يتم التعامل مع قضية الأسرى منذ بدايتها بما يستحق من اهتمام وعزم..ولو أن القيادة الفلسطينية اعتبرتها قضية مركزية لا تهاون فيها، لما كانت نتائج الأمور الآن بهذا المستوى من الألم والمعاناة…

وما كنا لنشاهد أسرى ما زالت رطوبة السجن تنخر أجسامهم رغم أنهم أمضوا أكثر من عشرين عاماً “.،

وتشير عائلة الرازم ” إلى أن ما وصلت إليه قضية الأسرى أصبح صعباً وخطيراًَ حيث تستفرد سلطات الاحتلال بهم وتقم بعمليات تنكيل واستفزاز يومي بحقهم… وقال والده الكهل: ” إيماننا بالله كبير… لكن الألم أيضاً كبير والحزن يغمرنا في ظل انعدام أي أمل أو فرصة بخروجهم…

فإذا كانت اتفاقيات السلام قد خذلتهم… ولم تستطع عمليات الإفراج في التبادل إخراجهم…

فأين هو الأمل إذا؟ والجدير بالذكر أن فؤاد أقدم سجين من حركة الجهاد الإسلامي يقضي حكماً مؤبداً في سجون الاحتلال والمستثنى كبقية المقدسين والفلسطينيين من أهلنا في عرب الداخل من أي فرصة للإفراج ضمن صفقات التسوية وتبادلات الأسرى.

يعاني من مشاكل صحية أبرزها مشكل في العينين وترفض إدارة السجن مساعدته صحياً وتقديم العلاج له، ورغم تكرار مطالبته بزيارة أخيرة لوالدته المقعدة ليدفن رأسه في حضنها للمرة الأخيرة في حياتها التي باتت بأية لحظة لتردي حالتها الصحية يوماًَ عن يوم لكن دون جدوى.

ست سنوات تمر دون أن يتمكن فؤاد من رؤية والدته المريضة المقعدة والعاجزة وتستمر المعاناة يوماً بعد يوم ولا أمل يلوح في الأفق لتحقيق رغبة إنسان يحتضر.

ونحن إذا نرفع رأسنا عالياً لوجود نموذج مشرف كفؤاد الرازم في مقدمة الصفوف جعلت من التضحية والعطاء نبراساًُ لحياتها نضم صوتنا لصوته ونداءنا لنداءات أهله ونتقدم لكل الجهات الإنسانية والدولية التدخل من أجل السماح له بزيارة والدته المقعدة للمرة الأخيرة ربما قبل فوات الأوان.

نادي الاسير الفلسطيني