3/3/2010
حسام بهجت – مدير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية
نشر بالعدد الأسبوعي لجريدة الدستور في 3 مارس 2010
الآن وقد هدأ غبار جلسات استعراض ملف حقوق الإنسان المصري أمام مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة ـ والتي انعقدت في جنيف يومي 17 و19 فبراير ـ لعل الوقت مناسب لتقييم مسيرة هذه المراجعة الفريدة التي خضعت لها الحكومة المصرية للمرة الأولى، لا سيما وقد انقضت أغلب مراحل المراجعة وأوشكت على الاكتمال، ولم يبق سوى اعتماد تقريرها النهائي في يونيو من العام الجاري. وربما كان تقييم تعاطي منظمات حقوق الإنسان المصرية ـ المستقلة منها والأقل استقلالاً ـ موضوع نقاش آخر، حيث سيركز هذا المقال لاعتبارات المساحة على تقييم الأداء الحكومي قبل وأثناء عملية المراجعة.
يمكن بضمير مرتاح وبناء على متابعة وثيقة وقريبة لتعامل الحكومة المصرية مع خضوعها للمرة الأولى لآلية المراجعة الدورية الشاملة التي نشأت مع تأسيس مجلس حقوق الإنسان في عام 2006، يمكن توصيف هذا التعامل بالجدية والاهتمام بل والشفافية فيما يتعلق بشكل عملية المراجعة أو من حيث كونها “عملية”، في حين غلب على “مضمون” الأداء الحكومي ومحتواه نفس الدرجة من التهافت والبؤس القائمين على الإنكار أو التبرير أو كليهما، على ما جرت عليه عادة النظام الحاكم في التعامل مع الانتقادات الموجهة من الداخل أو الخارج لسجله الحقوقي المشين.
ففيما يخص الشكل، صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1294 لسنة 2009 “بتشكيل لجنة حكومية للإعداد لخضوع مصر لآلية المراجعة الدورية لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة”، وذلك في يوم 10 مايو 2009، أي قبل ما يقرب من عام كامل على جلسة المراجعة وستة أشهر على موعد تسليم تقرير الحكومة في نوفمبر من العام الماضي. وقد نص القرار على أن يرأس اللجنة الوزير مفيد شهاب، وأن تضم في عضويتها ممثلين لوزارات الخارجية والعدل والداخلية والإعلام والتضامن الاجتماعي والقوى العاملة والأسرة والسكان، فضلاً عن ممثلين للنيابة العامة والمخابرات العامة ومجلسي الطفولة والمرأة والجهاز المركزي للإحصاء. ومن حيث التكليف القانوني للجنة، فقد خولها القرار ثلاث مهام مترابطة: الأولى هي إعداد التقرير الحكومي المقدم لآلية المراجعة، والثانية هي تنظيم الأنشطة للتعريف بالآلية، على أن تتم هذه الأنشطة بمشاركة المنظمات غير الحكومية، وهي بالطبع سابقة محمودة في مجال حقوق الإنسان، أما المهمة الثالثة ـ وهي الأهم في نظرنا ـ فهي “إعداد خطة عمل لتنفيذ نتائج المراجعة الدورية” وهو ما ورد نصاً في الفقرة ج من المادة الثانية من القرار.
كما نشأت بموجب القرار أمانة فنية لتسهيل وإدارة عمل اللجنة الحكومية، برئاسة مدير حقوق الإنسان في وزارة الخارجية، وكلفت اللجنة قاضيين منتدبين لدى الحكومة ـ سنعود للحديث عنهما بعد لحظات ـ ليقوما بجمع المعلومات والتقارير ذات الصلة في دراستين تتناول إحداهما الحقوق المدنية والسياسية بينما تتعرض الأخرى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبعد يومين من انقضاء موعد تقديم المنظمات الحقوقية والمجلس القومي لحقوق الإنسان لتقاريرهم الموازية إلى مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان عقدت اللجنة الحكومية في 3 سبتمبر الماضي اجتماعاً مع بعض ممثلي المنظمات الحقوقية المصرية والمجلس القومي من أجل “التشاور في محتويات التقرير الحكومي” كما جاء في نص الدعوة. وبينما تميز هذه الاجتماع بارتفاع درجة التمثيل الحكومي فيه بشكل ربما كان غير مسبوق (رأسه الوزير شهاب بحضور كل من النائب العام والنائب العام المساعد ومساعد وزير الداخلية للشئون القانونية ومساعد وزير الخارجية لشئون المنظمات الدولية وممثلين عن وزارات وهيئات أخرى) إلا أن الاجتماع لم تكن لتتوافر له أية فرصة لمناقشة حقيقية وجادة لقضايا حقوق الإنسان في مصر، حيث لم يكن بين أيدي المشاركين ـ ومن بينهم كاتب هذه السطور ـ برنامج عمل للاجتماع أو مسودات أو حتى تصور لمحتويات التقرير الحكومي، أو أية علامة أخرى تشير إلى أن الاجتماع قد سبقه أي تحضير أو أنه انعقد لأي غرض آخر سوى أن يكون قد انعقد! واقتصر الأمر على ثلاث ساعات تناوب فيها الحاضرون العشرة الممثلون للمجلس القومي لحقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية الحديث لمدة خمس دقائق لكل متحدث حول أهم القضايا التي يجب أن يتضمنها تقرير الحكومة!
كان هذا الاجتماع هو أول المؤشرات على أن الحكومة تهتم بشكل المراجعة وشكل التحضير لها دون أن يقترن ذلك باهتمام مماثل بمضمون المراجعة. فرغم حرص ممثلي الحكومة خلال الاجتماع على التأكيد على أنها لا تتعامل مع المراجعة “من منظور دفع التهم أو تبييض الوجه وإنما ستنطلق من الاعتراف بأوجه القصور والسلبيات مع إيراد الإيجابيات” إلا أن القاضيين المكلفين بإعداد التقرير الحكومي لم يذكرا خلال عرضيهما في الاجتماع إلا الإيجابيات والجهود الحكومية لتحقيقها، حتى أن القاضي المكلف بإعداد تقرير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية شدد على أنه بعد أن انتهى من جمع مادة التقرير أصابه الذهول ـ على حد وصفه ـ من حجم الجهود الحكومية الجبارة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي وشعر بالاطمئنان على مستقبل البلد، وهو ما دفع الدكتور حسام بدراوي، الذي كان حاضراً عن المجلس القومي، لطلب التعقيب ليقول بالنص “إنني شعر بقلق بالغ من حديث سيادة المستشار والذي لا يعبر عن الواقع ولا عما نسمعه من المواطنين، ولا حتى عن المناقشات التي تدور داخل الحزب الحاكم”!
وعندما نشرت الأمم المتحدة في ديسمبر الماضي التقرير الذي قدمته الحكومة لآلية المراجعة، جاء التقرير متوافقاً تماماً مع التخوفات التي كان قد شعر بها كل من حضر اجتماع اللجنة الحكومية قبل ثلاثة أشهر. فالتقرير يبدأ بمقدمة تستخدم اللهجة الحكومية الجديدة، والتي تفوح منها رائحة الجدية والنقد الذاتي: “الحكومة المصرية إذ تقدم هذا التقرير لمجلس حقوق الإنسان إنما تدرك تماماً أن تطوير حقوق الإنسان في مجتمع من المجتمعات عملية مستمرة ومتجددة وتراكمية الأثر ولا تظهر نتائجها إلا بشكل متدرج، وأنه مهما بذل من جهد أو تحقق من إنجاز في هذا المجال فإنه يبقى قاصراً عن بلوغ حد الكمال، وتظل دئماً تحديات نحاول أن نتغلب عليها وأوجه نقص نسعى إلى استكمالها.” ولكن رائحة النقد الذاتي تتلاشى مع نهاية المقدمة وبداية متن التقرير الذي يتناول أوضاع حقوق الإنسان في بلادنا، وتحل محلها تلك الرائحة العطنة لغرف الأرشيف الحكومي الخطابي البالي، فإذا بالأوضاع في مصر وفقاً للتقرير الحكومي لا تبلغ فقط “حد الكمال” وإنما تفوقه بمراحل عدة. وإذا بالحكومة تنتقل في نهاية التقرير من الكذب علينا إلى إهانتنا! فالتحديات التي تواجهها في مجال حقوق الإنسان تتلخص في كلمة واحدة: المصريون. العوائق الوحيدة التي تواجه حكومتنا حسب التقرير هي: استخدامنا للإرهاب، وكثرة إنجابنا للأطفال، وسيادة موروثاتنا الثقافية البالية، وضعف ثقافة حقوق الإنسان لدينا. أما النقيصة الوحيدة التي لم تلصقها بنا الحكومة في حديثها عن التحديات التي تواجهها فهي الأزمة المالية العالمية، والتي تجتمع مع باقي التحديات الأخرى في كونها مشكلة تأتي من خارج الحكومة التي هي بالطبع حكومة كاملة الأوصاف. الجحيم في نظر الحكومة ـ حقاً ـ هو الآخرون. فالإرادة السياسية متوافرة، وخطوات الإصلاح متتالية، والإنجازات الحقوقية متواترة، ولم يبق إلا أن نسرع نحن الخطى لنلحق بحكومتنا المستنيرة. وهو بالحرف ما قالته لنا السفيرة نائلة جبر مساعدة وزير الخارجية لشئون المنظمات الدولية في اجتماع سبتمبر قبل أن تشرع الحكومة حتى في كتابة تقريرها: “حقوق الإنسان قضية تنموية، والمشكلة عندنا أن الإطار المجتمعي غير مهيأ لتحسين أحوال حقوق الإنسان.” أهذه هي المشكلة عندنا؟ شكراً على التوضيح. أين ـ بالمناسبة ـ الخجل؟!
كان من الممكن للحكومة أن تعالج هذه العيوب الفادحة في تقريرها من خلال صياغة مداخلاتها الشفهية أمام مجلس حقوق الإنسان بصورة أكثر ذكاء واحتراماً للمستمعين وللشعب المصري، خاصة وأن الجلسة مذاعة على الهواء عبر موقع الأمم المتحدة عبر الإنترنت. لكن المداخلات الشفهية للوفد الحكومي في 17 فبراير جاءت إما مقتبسة نصاً من التقرير الحكومي المعيب، أو فاجأتنا بأنها أكثر فجاجة من التقرير الحكومي، وبأن ذلك ممكن أصلاً! فلم تخجل السيدة آمال عثمان من التفاخر أمام المجلس الدولي بأنها نائبة برلمانية منذ عام 1984، وهي التي كانت قبل يوم واحد من المراجعة رأست نفس اجتماع اللجنة التشريعية بمجلس الشعب الذي قادت فيه رفض تعديل تعريف التعذيب في قانون العقوبات لإنهاء الحصانة التي يتمتع بها جلادو وزارة الداخلية. ولم يخجل نائب رئيس مجلس الدولة ـ والمنتدب طبعاً كمستشار لوزارة الدولة للشئون القانونية والبرلمانية ـ من ترديد أكاذيب توقفت الحكومة نفسها عن ترديدها، كالقول بأن المحاكم العسكرية تكفل جميع ضمانات المحاكمة المنصفة التي يكفلها القضاء العادي، أو أن حالة الطوارئ ليس لها أثر على أوضاع حقوق الإنسان لأنها لا تطبق إلا على جرائم الإرهاب والمخدرات. أما رئيس هيئة مفوضي المحكمة الدستورية العليا فقد فاقت مداخلته حول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر كل التوقعات في تبييض وجه الحكومة، حتى إن إحدى عضوات الوفد الحكومي المصري عقب انتهاء الجلسة قالت لزملائها بصوت مرتفع ولهجة تقطر سخرية: “يا سلام. ده إحنا عايشين في الجنة ومش حاسين” لتنفجر السيدة آمال عثمان ضحكاً وكأنها ضبطت متلبسة بفعل شقي. وعلمت بعدها بأن السيد المستشار كان قد تم نقله رئيساً لمفوضي الدستورية العليا بعد أن قضى فترة خدمته منتدباً لسنوات لدى وزارة العدل في إدارة التفتيش القضائي ثم منتدباً لسنوات أخرى كمستشار لوزارة الشئون الاجتماعية ودون أن يعمل قط في المحكمة الدستورية. هل نحتاج إلى المزيد من الأدلة على حتمية وقف مهزلة انتداب القضاة للعمل في الحكومة؟
إن هذا التقييم للتعاطي الحكومي مع مراجعة مجلس حقوق الإنسان لا يعني أن المراجعة كانت مضيعة للوقت. فبسبب هذه الآلية قدمت الحكومة المصرية للمصريين والعالم أحد عشر تعهداً طوعياً يجب أن نظل نتذكرهم ونذكر الحكومة بهم، وهم حسب نص التقرير الحكومي: إجراء مراجعة شاملة للقوانين المصرية ذات الصلة بحقوق الإنسان لمواءمتها مع الالتزامات الدولية التي قبلتها مصر، ودراسة الانضمام للاتفاقية الدولية للحماية من الاختفاء القسري وكذا كل من البروتوكول الإضافي للعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبروتوكول الإضافي للاتفاقية الدولية لحقوق ذوي الإعاقات، والعمل على إصدار القوانين الخاصة بالجمعيات الأهلية والعنف ضد المرأة وحقوق ذوي الإعاقة والاتجار في الأفراد والنقابات المهنية والتأمين الصحي، والانتهاء من إعداد قانون مكافحة الإرهاب في صورة متوازنة، ومراجعة تعريف التعذيب في القانون المصري لضمان اتساقه مع التعريف الوارد في اتفاقية مناهضة التعذيب، والنظر في تعديل قانوني المرافعات والإجراءات الجنائية بغرض إيجاد ضمانات تحول دون تحريك الدعاوى الجنائية والمدنية ممن ليست له مصلحة مباشرة فيها والتي يمكن أن تؤدي إلى فرض الوصاية على حرية الفكر والإبداع، ودراسة القانون المقترح من المجلس القومي لحقوق الإنسان بتبني تشريع موحد لبناء دور العبادة، وإعادة النظر في بعض التحفظات المصرية على اتفاقيات حقوق الإنسان للنظر في مدى إمكان سحب أي منها، وعقد اجتماعات دورية مع مؤسسات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان كشركاء في جهود الارتقاء بهذه الحقوق، وتكثيف مناهج التثقيف والتعليم في مجال حقوق الإنسان في مختلف المراحل التعليمية بما في ذلك التعليم الجامعي، وتعزيز برنامج بناء القدرات في مجال حقوق الإنسان والجهود الخاصة بالترويج ورفع الوعي بهذه الحقوق.
هذه التعهدات الإحدى عشر التي تطوعت بها الحكومة، و119 توصية أخرى قبلتها الحكومة من بين 165 توصية تم تقديمها أثناء اجتماع المجلس الدولي في فبراير، و25 توصية ستقبل الحكومة بعضها وترفض البعض الآخر بحلول شهر يونيو القادم، تقدم جميعاً برناج عمل يمكن لهذا النظام عبر تنفيذه أن يغسل يديه من عار الأعوام الثلاثين الماضية، بشرط أن تتوافر الإرادة السياسية لذلك، وأن يتم إنهاء ثقافة الحصانة من العقاب على انتهاكات حقوق الإنسان، وأن يبدأ العمل فوراً في تفكيك الدولة الأمنية التي شيدها النظام عبر العقدين الماضيين. فإن لم يفعلها النظام فإننا سنواصل تحمل مسئوليتنا الأخلاقية في فضحه حتى يعتدل أو يرحل.