20/5/2005
* بقلم / عبد الناصر عوني فروانة
كان من المفترض أن أكون أول من يستذكر تلك الذكرى .. لكن يبدو أن هموم الحياة وتراكم المعاناة باتت حملاً ثقيلاً وكبيراً على ذاكرتنا التي لم تعد تحتمل وتتسع لتلك الأحداث ، والتاريخ الفلسطيني ما شاء الله مليء وحافل بالأحداث والمآثر ، بالنكبات والإنتصارات .
ففي مثل هذا اليوم وقبل عشرون عاماً كانت ” عملية الجليل ” عملية التبادل الكبيرة التي جرت عام 1985م والتي تمت ما بين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة وحكومة الإحتلال الإسرائيلي وتحرر بموجبها 1150 أسير من سجون ومعتقلات الإحتلال ، مقابل ثلاثة أسرى اسرائيليين كانوا محتجزين لدى القيادة العامة .
ومن ضمن من تحرروا كان والدي بعد أن أمضى أكثر من خمسة عشر عامأ من الفراق والمعاناة متنقلاً من سجن إلى آخر ومن زنزانة انفرادية إلى أخرى جماعية ، وبمجرد أن اتصل بي أحد الزملاء الإعلاميين مستفسراً حول هذه المناسبة حتى عاد بي وبسرعة البرق شريط الذكريات للوراء لأستذكر يوماً من أروع أيام حياتي حين إلتقيت بوالدي في لقاء مفتوح دون تحديداً للوقت أو الزمن ، وتعانقنا دون حواجز أو قضبان ، دون مراقبة أو إرهاب ، في مشهد لم أذكر مثيلاً له في طفولتي ، لكنني أذكر جيداً مشهد اقتحام الجيش آنذاك لبيتنا والعبث بمحتوياته وركلهم لنا بأقدامهم على الرغم أن عمري لم يكن آنذاك يتجاوز الثلاثة سنوات .
ذرفت الدموع وأنا أحادث زميلي على الهاتف لأنني أدرك جيداً المعاني التي حملتها عملية الجليل على الصعيد الشخصي و على الصعيد العام ، لهذا كان من المفترض أن لا تغيب عن ذاكرتي وأن أكون من أوائل من يستذكرونها . ” عملية الجليل ” لم تكن عملية التبادل الأولى ما بين فصائل المقاومة الفلسطينية والعربية وحكومة الإحتلال – حيث سبقها وتلاها عمليات تبادل عديدة – إلا أنها كانت الأكبر على الإطلاق والأكثر زخماً ، وقد شكلت رافعة لمعنويات الجماهير العربية والفلسطينية ، وعززت ثقة المناضلين بالثورة وقيادتها التي لم تتخلى عنهم ولم تفرط بحقهم في الحرية ولم تقبل بتمزيق وحدتهم الفلسطينية والجفرافية والنضالية ، بل اكتسب عملية الجليل بعداً فلسطينياً وقومياً وعالمياً من خلال ما اشتملته القائمة على مناضلين أجانب وفي مقدمتم الأسير الياباني (كوزو أوكاموتو) ، كما اشتملت على مناضلين فلسطينيين من الأراضي المحتلة عام 1948 وفي مقدمتهم داوود تركي ، واشتملت على مناضلين عرب أشقاء من بلدان عربية مختلفة ، بالإضافة للمناضلين الفلسطينين من الضفة وغزة والقدس ، فاستقبلت القدس و بيت لحم و غزة ورفح والخليل ورام الله ونابلس وطولكرم وجنين و أريحا ومدن الجليل والمثلث ومخيمات الشتات أبناءها البررة ، الأبطال العائدين منتصرين إلى بيوتهم وقراهم فشكلوا رافداً مهماً للثورة الفلسطينية و لكل فصائلها ورافداً مهما للنضال الوطني الفلسطيني و القومي .
ومن ثم لعب هؤلاء دوراً مميزاً بين صفوف شعبهم وداخل قراهم وتنظيماتهم وفي عمليات التأطير والتنظيم والتعبئة الجماهيرية والإنخراط من جديد في عمليات المقاومة ضد الإحتلال ، وكان لهم تأثير قوي على المواطنين ، مما عكس نفسه ايجاباً على اتساع دائرة المقاومة والمد الجماهيري المقاوم للإحتلال ، ولعبوا دوراً أساسياً في التحضير للإنتفاضة الشعبية الأولى ، كما لعبوا دوراً قيادياً فيها وفي تأجيجها واتساعها وديمومتها .
كما وشكلت عملية الجليل صفعة قوية للإحتلال وحكوماته حيث أن العدد كبير( 1150 ) ، وغالبيتهم العظمى صدرت بحقهم أحكاماً جائرة أدناها عشرات السنين وأقساها السجن المؤبد ، وغالبيتهم العظمى شاركوا في عمليات للمقاومة أوقعت خسائر بشرية في صفوف الإسرائيليين ، و بتعبير شارون (( أيديهم ملطخة بدم الإسرائيليين )) ، ليس هذا فحسب بل أرغم الإحتلال على الإفراج عن أسرى من المناطق التي احتلت عام 1948 ،كما أرغم على الإفراج عنهم داخل مناطقهم ووفق خياراتهم وبالتالي أرغمت حكومة الإحتلال للخضوع لشروط المقاومة .
ولقد أصبحت عملية الجليل سابقة ثورية في كافة نتائجها و في الكرامة و الانتصار النسبي الذي سجلته في تاريخ النضال الفلسطيني ..
ومن الطبيعي عندما تصمت البندقية ويتوقف إطلاق النار أن يطلق سراح الأسرى ، ولكن على ما يبدو أن المماطلة والتعنت الإسرائيلي قد يدفعنا أو يدفع البعض منا إلى التفكير جدياً في اعادة النظر في سياسة صمت البندقية واللجوء إلى أساليب أخرى تجبر حكومة الإحتلال على إطلاق سراح أسرانا .
فلازال في السجون والمعتقلات الإسرائيلية قرابة ( 8500 أسير ومعتقل ) من بينهم 390 أسير معتقلون منذ ما قبل اتفاقية أوسلو بالرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على هذه الاتفاقية ، وجميعهم بانتظار أن تشرق شمسهم بالرغم من صمت البندقية وحالة التهدئة القائمة.
فمن يمكن أن يحرر هؤلاء ؟؟ وهل نحن بحاجة إلى عملية تبادل أسرى جديدة ؟؟
كنا نحلم أن يكون لنا أكثر من أبو عمار وجورج حبش وأبو جهاد وأبو علي مصطفى ، كنا نحلم أن يكون لنا أكثر من الياسين والشقاقي ، كنا نحب جيفارا و كاسترو ، واليوم وبعد عشرون عاماً على عملية الجليل نزداد فخراً واعتزازاً بها فهي أعظم عملية تبادل شهدها الصراع العربي – الإسرائيلي ، نتمنى اليوم أن يكون لنا أكثر من أحمد جبريل وأكثر من عملية تبادل للأسرى كعملية الجليل لنوقف معاناة أسرانا ونحرر أجسادهم لتلامس أشعة الشمس التي لم تشرق بعد ! …. فيا أسرانا متى ستشرق شمسكم ؟؟