26/5/2009

د. علاء غنام
مدير برنامج الصحة وحقوق الإنسان بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية
(نشرت بجريدة نهضة مصر يوم 24 مايو 2009)

اجتاحت أوبئة الكوليرا العالم بين الأعوام (1830 – 1847), مما حفز البشرية للبحث عن حلول لمكافحة الأمراض المعدية. ونشأ التعاون متعدد الأطراف في مجال الصحة العامة، وتعلمت الأمم مفاهيم الخطط الصحية وكيفية متابعة تنفيذها، وبدأ دستور منظمة الصحة العالمية يوضع موضع التنفيذ منذ عام 1948، ثم أقرت الدول الأعضاء في هذه المنظمة اللوائح الصحية في عام 1951 وأخذت في تطويرها حتى نسختها الأخيرة في مايو 2005. ومن المستجدات الأساسية في هذه اللوائح الصحية الدولية شرط يطالب كل بلد بتعزيز وتفعيل قدرتها الأساسية على الترصد والاستجابة فيما يتعلق الصحة العامة اعتماداٴ على مواردها الوطنية إضافة إلى المساعدات الدولية، ووضع الخطط الوطنية للتأهب لوباء الأنفلونزا، وتطوير الخدمات والمرافق الصحية الأساسية لهذا الغرض.

ورغم ذلك فقد شاهدنا جميعاً كيف فوجئت الحكومة المصرية بانتشار أنفلونزا الطيور – رغم التحذيرات المسبقة – في بداية عام 2006، وارتبكت القطاعات الحكومية المسئولة كالعادة في وزارات الزراعة والصحة والبيئة لاتساع نطاق حالات الإصابة، واتسمت إدارة الحكومة للأزمة بكثير من العشوائية حتى استفحلت الأزمة وبلغت خسائرها البشرية والاقتصادية أبعاداً مؤسفة,، خاصة بعد أن أستوطن الفيروس الريف والحضر وأصبحت مصر في المركز الثالث على مستوى العالم من حيث أعداد الوفيات البشرية بسبب فيروس أنفلونزا الطيور. ولم تبدأ الحكومة في وضع خطة قومية إستراتيجية لمواجهة الأزمة البشرية الصحية والاقتصادية إلا في سبتمبر من عام 2007، وقد شملت هذه الخطة عدة عناصر منها تكوين لجنة عليا مشتركة بين عدة قطاعات بقيادة وزارة الصحة لترصد المرض ووضع برنامج للتطعيمات ضد الأنفلونزا وتطبيق اللوائح الصحية الدولية والتنسيق مع المنظمات الدولية والإمداد بالأدوية اللازمة، إضافة لوضع ثلاثة سيناريوهات محتملة تُرفع فيها حالة الاستعداد إلى الذروة (طوارئ) خاصة في حالة انتقال الفيروس من الطيور (أو أي حيوان آخر) إلى البشر في شكل واسع وبائي في محافظة واحدة أو في عدة محافظات أو إمكانية تحوره وانتقاله من البشر إلى البشر مباشرة في شكل وبائي أوسع.

وفي الأسبوع الأخير من شهر إبريل الماضي أعلنت المكسيك عن ظهور حالات أنفلونزا تأكد أنها مختلفة عن الأنفلونزا الموسمية وبدأت في الانتقال من البشر إلى البشر، وأطلق عليها في البداية أنفلونزا الخنازير بافتراض ـ غير مدقق حتى الآن ـ أن مصدرها الخنازير، لأن التحور لهذا النوع الفرعي من الفيروس من الممكن أن يحدث حتى داخل الإنسان نفسه ومن ثم يصبح الإنسان هو مصدر العدوى حتى للخنازير. ولكن منظمة الصحة العالمية في يوم 30 إبريل أطلقت عل الفيروس الجديد اسم أنفلونزا (اتش وان ان وان ايه). وفي الأول من مايو أعلنت أنها لا توصي في الوقت الحاضر بفرض أية قيود على حركة السفر جراء انتشار الأنفلونزا الجديدة. وأكدت المنظمة على أنه لابد من التركيز في الوقت الراهن على الحد من آثار ذلك الفيروس إلى أدنى مستوى ممكن بالتعجيل بأنشطة الكشف عن الحالات وتزويد المرضى بخدمات الرعاية الطبية المناسبة بدلاً من السعي إلى وقف انتشاره على الصعيد الدولي.

في نفس السياق أصدرت منظمة الصحة العالمية بمشاركة منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) والمنظمة الدولية لصحة الحيوان في اليوم التالي بيانا بشأن الأنفلونزا (H1N1)A ومأمونية لحم الخنزير قالت فيه: أثناء الانتشار الحالي للأنفلونزا أثيرت هواجس بخصوص إمكانية وجود هذا الفيروس في الخنازير، وبخصوص مأمونية لحم الخنزير ومنتجاته، فليس معروفا أن فيروس الأنفلونزا ينتقل إلى البشر عن طريق تناول لحم الخنزير أو منتجاته.

وعلى الرغم من كل ذلك فقد حملت رياح الأزمة نفسها إلى عقل المجتمع المصري بلا تبصر – كالعادة – وكانت لدى الحكومة ممثلة في وزارتي الصحة والزراعة الخطة المذكورة التي كانت تحمل شعار (سري ولأغراض التدريب) ونشرتها جريدة المصري اليوم في 5/5/2009 خاصة في جانبها المتعلق بانتشار الوباء بين البشر.

وهنا نأتي إلى أبرز التساؤلات في ظل إجراءات الحكومة المتعجلة بعد ظهور أنفلونزا (اتش وان ان وان ايه). والتي تمت دون دراسة متأنية، والخاصة بالتخلص الفوري من الخنازير وحظائر الخنازير التي تستخدم فيها القمامة المتجمعة من القاهرة وغيرها من المدن: هل كان هذا الإجراء مدرجاً في تلك الخطة الإستراتيجية؟ وإذا كان فلماذا لم ينفذ منذ بداية وضع الخطة في سبتمبر 2007؟ ولماذا ظلت تلك الخطة سرية ولأغراض التدريب؟ ومتى يشارك المواطنون وأصحاب المصلحة في وضع ومناقشة خطط الحكومة خاصة فيما يتعلق بصحتهم وأرزقاهم، حتى يدركوا البدائل المتاحة أمامهم ليسعوا للتفاعل معها بإيجابية؟ ومتى تثق الحكومة في المواطنين وتطلعهم في شفافية على خططها الصحية وغير الصحية؟ ولماذا يفاجأ البشر في مصر بإجراءات الحكومة المتعجلة التي تفتقد أي استناد إلى مبررات أخلاقية أو إنسانية أو صحية سليمة وهي التي أوصت بها اللوائح الدولية للصحة أو التي وضُعت في خطة الحكومة الاستراتيجية ذاتها؟

للأسف، بدت حكومتنا في مواجهة الأزمة العالمية كالعادة كالعازف النشاز في عالم يسعى إلى العلم والشفافية والبدائل الأخلاقية الحقوقية التي تحكمها مواثيق حقوق الإنسان والحق في الصحة. وكان من الأجدى التوجه مبكرا إلى المواطنين ومنذ توطنت أنفلونزا الطيور في مصر (عام 2006) وتوعيتهم بعيدا عن رسالة الإعلام الساذجة المتداولة حول الوباء المنتظر وخطورته إن حدث. فلم تكن رسالة الحكومة واضحة أو مفهومة أو ملزمة. لذا لم يكن قرار ذبح أو إعدام الخنازير المفاجئ مقبولاً أو مفهوماً، خاصة لأنه غير مشمول بالإجراءات الاحترازية التي لجأت إليها دول العالم بما فيها المكسيك التي ظهرت فيها الحالات الأولى للإصابة.

والمعروف أن بناء حظائر جديدة والاهتمام بنظافتها والإشراف الصحي المستمر على الحيوانات وإعطائها اللقاحات الواقية – وهي موجودة – ومتابعة عمل ملفات صحية للقائمين على رعايتها والعاملين بالصناعات المتعلقة بها كتصنيع اللحوم وخلافه، كلها أمور ملزمة قانوناً للدولة للوفاء بحق المواطنين في الصحة والرعاية الصحية وفقا للقوانين المحلية والمواثيق الدولية ولوائح الصحة العالمية.

لذلك كان من الضروري تفعيل الخطة القومية لمكافحة الأنفلونزا بعرضها على المواطنين للمناقشة والموافقة عليها مجتمعيا، وإشراكهم في كل الخطوات المتعلقة بحقوقهم الصحية وغيرها من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بعيداً عن مبدأ اغتيال الضحية عبر إجراءات إدارية غير رشيدة تتسم بالعشوائية الواضحة. كما كأن على الحكومة العمل على وضع سياسات واضحة لمشكلة نقل حظائر الحيوانات عموماً خارج النطاق السكاني في ظل شروط صحية سليمة ومصحوباً بتعويضات عادلة، والعمل مع المجتمع المدني على وضع حلول عملية لمشكلة القمامة في مدننا الكبرى والصغرى باعتبارها قضية صحة عامة واستثماراً تنموياً له قواعده الدولية اللازمة لضمان حق الإنسان في الصحة والرعاية الصحية.

المبادرة المصرية للحقوق الشخصية

[an error occurred while processing this directive]