14/11/2008

أكثر من تسعة آلاف معتقل فلسطيني يقبعون في سجون ومعتقلات الإحتلال الإسرائيلي ، بينهم أمهات ولدت و أطفال كبرت ، وأسيرات تجرعن المرارة ، ورجال وشيوخ مرضى يموتون ببطىء ، وأصحاء محرومون من أبسط حقوقهم ، مما يؤهلهم لأن يتحولوا مع الوقت لمرضى ،… ليرسموا جميعاً صوراً مختلفة لبشاعة الإحتلال واجرامه وانتهاكاته الفاضحة لحقوقهم الإنسانية ، ويسطروا روايات تعتصر لها القلوب ألماً ، وتذرف لها الدموع حزناً ، وقصص من الصمود النادر والإرادة الفذة ، تُذهل لها العقول ، وتصلح جميعها لأن تكون سيناريوهات في سينما “هوليود” .

ولكن وللأسف الجزء الموثق من تلك القصص والروايات مبعثر ، والجزء الأكبر غير موثق وأسير في ذاكرة الأسرى والأسرى المحررين ، يحتاج الى من يحرره ويدونه في مجلدات وكتب .

وهذا يقودني الى التأكيد على أن الأسرى ليسوا مجرد أرقام واحصائيات ، فللأسرى أمهات وآباء ، شقيقات وأشقاء ، أبناء وأحبة ، جيران وأصدقاء وجميع هؤلاء يعانون من الأسر وتأثيراته بشكل مباشر أو غير مباشر ، فالمعاناة تطال الأسير ودائرته الإجتماعية .

والأسير حمزة النايف هو واحد من أولئك الأسرى ، بل هو واحد من الأسرى القدامى المعتقلين منذ ما قبل أوسلو ، وممن مضى على اعتقالهم أكثر من عشرين عاماً ويحملون لقب ” عمداء الأسرى” .. فهو معتقل منذ الخامس عشر من تشرين ثاني / نوفمبر 1986 ، وفي مثل هذا اليوم يكون قد تمم عامه الثاني والعشرين وسيدخل غداً عامه الثالث والعشرين .

ولا أخفي صراحة انحيازي للأسرى القدامى ولذويهم .. فوالله أخجل من نفسي حينما أستحضر أسمائهم لبقائهم عشرات السنين في الأسر ، مع اعتزازي بهم وبصمودهم الإسطوري .

وليس بالضروري أن تلتقي بكافة الأسرى القدامى لتتعرف على خصالهم ، و” حمزة ” واحد ممن لم أنل شرف الإلتقاء بهم في الأسر … لكن يكفي أنه من ” عمداء الأسرى ” ، وشاءت الظروف أن أتعرف على شقيقه عمر المقيم حالياً في بلغاريا ومن خلاله تعرفت أكثر على الأسير حمزة وأفراد أسرته المقيمة في مدينة جنين ، وقصته دفعتني للتحدث عبر الهاتف مع شقيقه رشاد ” أبو أشرف ” ومع والدتهم الحاجة ” أم عاطف “.

” حمزة النايف ” .. اسم غني عن التعريف ، مناضل يعرفه الجميع ، ينتمي الى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، ويُعتبر هو ورفيقه سامر المحروم الذي اُعتقل معه من قُدامى أسرى الجبهة عموماً ، وثالث ورابع أقدم أسرى محافظة جنين بعد الأسيرين عثمان بني حسين وهزاع السعدي ، وهو متميز داخل الأسر بعطائه ونشاطه ، يحظى بعلاقات تنظيمية ووطنية واسعة ، وحدوي .. يسعى دائماً لتعزيز وترسيخ وحدة الحركة الأسيرة ، كما وأنه ينتمي لأسرة مناضلة يشهد لها الجميع في جنين …

الإعتقال

” حمزة النايف ” اعتقل مع رفيقه سامر المحروم بتاريخ 15-11-1986 بعدما نفذا عملية قتل مستوطن في قلب القدس المحتلة طعناً بالسكاكين ، وصدر بحقهما فيما بعد حكماً بالسجن مدى الحياة .

وهو أعزب ومن مواليد عام 1966 ، و حينما أعتقل كان عمره عشرين عاماً ، و بالمناسبة سبق وأن اعتقل حمزة في يناير عام 1986 وأمضى عشرة شهور في الأسر وتحرر أوائل نوفمبر وبعدها بأيام اعتقل للمرة الثانية ، وكأنه كان يريد أن يقول بأن السجن لم يوقف نضالاتنا ، بل على العكس يعزز انتمائنا وخيارنا وقناعاتنا .. واليوم يكون حمزة قد أمضى في الأسر عقدين ونيف ، تفوق ما أمضاه من عمره خارج الأسر .. فهل سُيكتب له أن يمضي سنوات أخرى خارج الأسر ؟

ومع ذلك لم يتزعزع صموده أو تلين ارادته ، والسجن لم يغير من قناعاته شيئاً ، كما لم تهتز مبادئه ، والمتغيرات السياسية العديدة لم تؤثر على انتمائه الحزبي ولم تُحيده عن خط ومسيرة جبهته .. فكان ولازال رجلاً قوياً صامداً و شامخاً وقدميه تعلو رقاب سجانيه .

أسرة عانت الكثير وذاق أفرادها مرارة الأعتقال

فشقيقه عمر اعتقل وهو طفل في السادسة عشر من عمره وواظب بعدها على الإعتقال لأكثر من ثلاثين مرة ، وتعرض للملاحقة والمطاردة القاسية وأُبعِدَ قسراً عن الوطن عام 1993 ، وأشقاؤه الآخرون عماد وأحمد ومازن وكاشف اعتقلوا أيضاً لفترات متفاوتة ، وأقدمت سلطات الإحتلال على اغلاق بيت العائلة ، ووالدهم الحاج ” أبو عاطف ” رحمة الله عليه كان يحظى بمكانة اجتماعية مرموقة بين أوساط أبناء المدينة ، وكان عضو منتخب بالغرفة التجارية لمدينة جنين لمدة عشرون عاماً .

امرأة تعاني منذ ثلاثين عاماً وتحيا على الأمل

والدته الحاجة “جميلة ” رائعة في مواقفها ، متميزة في نضالاتها ، صامدة في وجه سجاني أبنائها ، صابرة ومواظبة على زيارة أبنائها في السجون منذ أكثر من ثلاثين عاماً ، متسلحة بالأمل ، أمل احتضان أبنائها ، وأمل العودة الى بلدتها الأصلية صبارين قضاء حيفا ، ولم تفقد الأمل لبرهة ، كما لم تفقد البوصلة رغم المتغيرات السياسية .

امرأة ان فكرت في أن تمنحها جرعات من المعنويات والصمود .. تجد نفسك ضعيفاً أمام معنوياتها العالية وصمودها القوي وأملها الكبير بعودة أبنائها لحضنها ، هذا ما لمسته خلال حديثي معها عبر الهاتف ، .

الحاجة ” جميلة ” أم عاطف ” تنقلت مع حمزة ومن قبله أبنائها الآخرين الى عدة سجون من عسقلان الى نفحة ، ومن جلبوع الى بئر السبع ، الى أن استقر الحال بابنها ” حمزة ” قبل شهور في سجن ” ريمون ” المجاور لسجن نفحة في صحراء النقب ، وهي تعاني كغيرها من ذوي الأسرى من رحلة الزيارة الطويلة وما يرافقها من اذلال واهانة ومعاناة وعناء وتعب وأحياناً تنكيل واعتداء جسدي .

وخلال حديثي معها عبر الهاتف أبلغتني أنها زارت حمزة آخر مرة قبل اسبوعين في سجن ريمون ، وأن الزيارة استغرق ثمانية عشر ساعة ، فالمسافة من البيت الى السجن بعيدة جداً واستغرقت ثلاث ساعات ذهاباً ومثلهما اياباً ، فخرجت من بيتها الساعة السادسة صباحاً ، لتعود اليه في منتصف الليل ، وتقول كل ذلك من أجل رؤية حمزة يهون ، وتضيف لي ” كل هذه المعاناة من أجل زيارة معدودة الدقائق ، ومن خلال لوح زجاجي يفصل بيننا لعشرات السنتيمترات ويحرمنا حتى من ملامسة أصابع يديه كالسابق ، والحديث يتم فيما بيننا عبر سماعات هاتف وأحياناً يتقطع الصوت أو يحدث تشويش ولم أسمعه جيداً “.

أما والد الأسير حمزة لم يستطع زيارته بسبب مرضه وعدم قدرته على الحركة وفقدان الذاكرة وتوفى بعد سبع سنوات على اعتقال نجله ” حمزة ” ، دون أن يسمح للأسير وكالعادة من رؤيته ووداعه قبل أن يوارى الثرى .

وفي احدى رسائله من بلغاريا يقول لي نجلها ” عمر ” وهو أسير سابق ومبعد ( اتصلت بوالدتي بعد زيارتها لأخي حمزة ، فاذا بها تبكي بحرقة ، مع انها لم تعتاد على البكاء أمامنا ، حيث سبق وأن قالت لي ذات مرة أنني أبكي حينما أكون لوحدي ، نعم هذه المرة الأولى التي تبكي فيها أمامي وبحرقة ، فتساءلت هل ياترى استسلمت ؟ أم أنها كبرت ولم تعد تحتمل معاناة مسيرة الزيارات ، وآلام وقهر السنوات ، أم أنها تخشى المرض اللعين وفقدان القدرة على الذهاب لزيارة ابنها وبالتالي يكون مصيرها كمصير زوجها ؟ أم أن طول فترة الإعتقال أفقدها الأمل في أن تحتضن ابنها قبل أن تفارق الحياة .. أم ..أم …. )

و عودة على بدء ، فتأثيرات السجن تطول جميع عناصر الدائرة الإجتماعية الخاصة بالأسير ، وبدون شك فان سلطات الإحتلال الإسرائيلي تنتهج سياسة إعتقال المواطنين والزج بهم في سجونها ومعتقلاتها العديدة ، كسياسة ممنهجة تهدف الى الإنتقام منهم وافراغهم من محتواهم الوطني والنضالي ، كعقاب لهم ولذويهم في آن واحد ، دون أية اعتبارات انسانية .

وحقيقة فلقد فشلت في سياستها فالسجون تحولت لمدارس وجامعات فكرية وثورية خرجت أجيال وأجيال .. وذوي الأسرى كانوا دائماً سنداً قوياً لأبنائهم … مع اقرارنا بحجم وثقل همومهم الكبيرة ومعاناتهم التي لا توصف ، والسؤال متى سينعم ” حمزة ” ورفاقه بالحرية ؟ أم أننا سنبقى نعد لهم السنوات ونتغنى بصمودهم ؟ وهل سيأتي اليوم الذي ستحتضن فيه الحاجة ” جميلة ” ولدها ” حمزة ” أم ستلقى ذات المصير الذي لقيه زوجها وترحل دون أن تقبله وأن ترى وجهه الساطع دون شبك أو قضبان ؟
باحث مختص بشؤون الأسرى وموقعه الشخصي ” فلسطين خلف القضبان ”
http://www.palestinebehindbars.org