17/9/2005
يأتى تقديم وزير الثقافة استقالته بعد أن ظل قابعاً على كرسيه فترة تقارب العقدين من الزمن كمحاولة من النظام لامتصاص غضب الغاضبين وتفويت الفرصة على الإنتقادات الثقيلة التى وجهت لأداء عدد من أجهزة الدولة وعلى رأسها وزارة الثقافة والصحة والداخلية، تلك الانتقادات التى امتدت لتشمل أداء النظام ككل
ومما ضاعف من حرج النظام إزاء ما حدث فى بنى سويف أن حريق قصر الثقافة قد اندلع قبل ساعات قليلة من انتهاء المسرحية الهزلية التى دأب إعلام الدولة على وصفها بأداة العبور نحو المستقبل، فكان الحدث المريع أصدق تعبير على حاضر ومستقبل البلاد فى ظل النظام الحالى.
وعلى قدر الحزن والغضب العميقين اللذان خلفهما مقتل واصابة ما يزيد على المائة شخص بين مبدع وجمهور على قدر ما اتاح الحدث فرصة ذهبية للعديد من المثقفين والمهتمين بالشأن الثقافى لفتح ملفات الاهمال والفساد التى تسيطر على وزارة الثقافة بكافة هيئاتها ومؤسساتها فى أنحاء الجمهورية.
ملفات الميزانية التى تذهب بأكملها للمهرجانات الدولية الفاشلة ولديكورات المعارض والمتاحف التى لا تثير اهتمام سوى فئة محدودة جداً على رأسها الوزير نفسه
بينما قصور الثقافة ومسارح الجامعات وفروع اتحاد الكتاب والثقافة الجماهيرية لا ينالها سوى الفتات، كما فتحت ملفات الفساد الإدارى والمحسوبية التى لا يستثنى منها سوى قلة قليلة من المسئولين عن هيئات الوزارة فى العاصمة والاقاليم على حد سواء، وغيرها من الملفات الهامة والتى تبين أن محرقة قصر ثقافة بنى سويف وغيره من الكوارث السابقة واللاحقة هى النتيجة الطبيعية لإسلوب إدارة الوزارة التى هى جزء من النظام.
وعلى الرغم من أن استقالة الوزير التى جاءت متأخرة كانت على رأس مطالب كافة المثقفين والمهتمين الذين فجر لديهم الحدث براكين الغضب الراكدة تحت السطح
إلا أن استقالة الوزير التى قدمها بالفعل سواء بضغط من المنتقدين أو بضغط من النظام نفسه لا ينبغى أن تكون نهاية المطاف ولا ينبغى بأى حال أن تغلق كل الملفات المفتوحة، بل ينبغى أن تكون البداية
فالانتقادات التى وجهت للوزارة فى الاونة الاخيرة لم تكن جديدة، بل أن العديد من المثقفين لم يتركوا فرصة للتعبير عن سخطهم ورفضهم لأدائها على مدى سنوات، غير أن الجديد فى هذه المرة أن الحدث وحد أطياف مختلفة المبدعين والمثقفين على اختلاف مجالاتهم ليس فقط على مستوى المواقف والفعاليات والمقالات والبيانات بل أن مجال الإنتقادات نفسه امتد من مجرد اعلان الغضب على حدث منفرد ليشمل ليس فقط أداء الوزارة نفسها
وإنما أداء النظام ككل الذى أنتج مثل هذه الوزارة وبارك فسادها على مدى عقدين من الزمن، وهو تغير نوعى فى حركة المثقفين المصريين الذين طالما وصفوا بالانعزالية وعدم التفاعل مع مشكلات المجتمع اليومية بل وعدم القدرة على اتخاذ موقف موحد من الأحداث، لقد مثل الحدث أيضاً واحدة من الفرص النادرة التى تتوحد فيها حركة ومطالب المبدعين الشبان مع ذوى الخبرة من الكبار.
إن إستقالة وزير الثقافة ينبغى أن تكون دافعاً للسعى نحو تنقية الوزارة من الفساد والمحسوبية، وينبغى أن تكون خطوة نحو خطوات أكبر وأشمل لا يعتمد فيها المثقفين على وعود المسئولين بقدر اعتمادهم وثقتهم فى أن الإصرار على مطالبهم العادلة هى السبيل الوحيد نحو الإصلاح، لقد استقال الوزير تاركاً خلفه آليات عمل فاسدة وإدارات لا علاقة لها بالثقافة ولا بالمثقفين وأطنان من المشكلات التى لا يكمن حلها فى إعلان وزير مستقيل عن مسئوليته السياسية عن الحادث.
إن المثقفين المصريين فى الوقت الراهن لديهم فرصة مواتية تتمثل فى إدعائات النظام الحاكم بأنه راغب فى الاصلاح والتغيير واتاحة حرية التعبير والمشاركة والمحاسبة، وسواء صدق النظام أم كذب يبقى على جموع المثقفين المصريين الضغط من أجل تحويل الحد الادنى من تلك الادعاءات إلى واقع ملموس.
إن اللحظة الراهنة تتطلب من جموع المثقفين تنظيم صفوفهم وطرح برامج للإصلاح هدفها خلق واقع ثقافى مغاير يتيح مشاركة المبدعين فى مختلف الأعمار وفى كافة الأقاليم والمحافظات، برامج تستجيب للمطالب والاحتياجات الحقيقية للمبدعين وتنعكس بدورها على المواطنين من المتلقين والمشاركين فى الحركة الثقافية، برامج يكون عمادها الشفافية فى الأداء وحرية المسائلة والمحاسبة والعدالة فى التوزيع، والمساواة فى رعاية والاهتمام بدور الثقافة والهيئات الثقافية فى كافة أنحاء مصر.
إن مركز الجنوب لحقوق الإنسان إذ يؤكد على أن حركة حرة وموحدة لكافة مثقفين ومبدعين مصر هى الوحيدة الكفيلة بإصلاح الواقع الثقافى المصرى ليكون جماهيرياً بحق ومبدعاً بحق، فإنه يضم صوته إلى صوت المبدعين والمثقفين وكذلك إلى كافة المهتمين والمتلقين والمشاركين فى الحركة الثقافية فى مطالبهم العادلة ومساعيهم الجادة نحو الإصلاح.